وكمقدمة لدراسة مثل هذا الموضوع، سوف أطرح الأسئلة الثلاثة التالية:
1 ـ كيف تنبثق مشكلة الانسان بصفتها حقيقة ضخمة لا يحاط بها في المجتمعات الاسلامية المعاصرة؟
2 ـ ما التجهيزات الفكرية والمصادر العلمية التي يمتلكها الفكر الاسلامي المعاصر من أجل تقديم الأجوبة الجديدة للمشاكل المطروحة: أقصد الأجوبة التي تراعي، في آن معاً، التعاليم الإيجابية للتراث والضرورات الملحة واللازمة للحداثة؟
3 ـ كيف يمكن أن نموضع الجواب (الاسلامي) على مشكلة الانسان ضمن التصورات والمواقف المحسوسة التي يفرضها الفكر العلمي الحديث؟ ونحن إذ نطرح المشكلة بهذا الشكل فإنها تجبرنا على تطبيق نقد جذري على الموقع المهيمن للفكر الغربي الذي يبدو أنه سيقود مصير الانسان أو الشخص البشري لفترة طويلة بسبب تفوقه العلمي والتكنولوجي.
في ما يخصّ الخط الفلسفي في معالجة الموضوع، فإننا نجد أن مفهوم الانسان وموضوعه كانا قد لفتا انتباه المفكرين المسيحيين بشكل خاص. نذكر من بينهم إيفان غوبري في كتابه الصغير الانسان عام (1975). وهو يعطي فكرة دقيقة عن الموضوع.
أما في ما يخص الجهة الاسلامية فإننا نجد موضوع الانسان موجوداً بقوة لدى مختلف تيارات الفكر الكلاسيكي. ولكننا لا نستطيع أن نكتفي بالأطر الدينية والأخلاقية والقانونية والفلسفية الموروثة عن الفكر الاسلامي النظري أو التأملي. وينبغي علينا الشروع بتفكير نقدي حول الموضوع اعتماداً على الشروط الجديدة للتطور التاريخي للمجتمعات الاسلامية منذ سني الخمسينات.
كنت قد بيّنت في دراسة سابقة كيف أن الضغط الديمغرافي وإدخال الاقتصاد الصناعي إلى المجتمعات الاسلامية ثم ظهور الدول أو الأنظمة المستبدة والمغفلة (أي المجهولة) والمنفصلة عن المجتمع المدني، بل والمضادة له، ثم التبعية المتزايدة تجاه التكنولوجيا الحديثة، ثم التأخر الثقافي، ثم القطيعة المأساوية مع البيئة المحلية سواء أكانت ريفية أم جبلية أم بدوية، كل هذه العوامل تداخلت وتضافرت من أجل تغيير شروط انبثاق الانسان وتشكله بشكل جذري.
نحن نعلم أن الثورات الزراعية التي أدخلت في كل مكان بعنفوان إيديولوجي معروف قد سحبت من العالم الريفي أو من حضارة الصحراء القواعد البيئوية والأرضية المحلية والزراعية لقانون العرض الذي ساد هذه المجتمعات منذ آلاف السنين. في الواقع، إن قاتنون العرض كان قد ساد قبل الاسلام وبعده من أجل الحفاظ على الأمن والنظام داخل كل جماعة. وهذا هو معنى استبطان نظام القيم التي تبلغ ذروتها في الشرف الذي يتيح لكل فرد أن يرتفع إلى درجة عليا أكثر فأكثر (أفضل، فضل، عين، أعيان). كما ويتيح له أن يتمتع بالسيادة والاحترام الخاص بالانسان. نقصد بذلك سيادة روح ما على بقية الأرواح، أو إنسان ما على بقية الناس. وهذا ما يؤدي إلى إذعان البشر الحر للقيم المجسدة والمطبقة من قبل السيد، أو الزعيم، أو الحكيم (سيد، شيخ، إمام، مهدي، والي، مرابط، الخ...).
إن قانون العرض السائد في المجتمعات التقليدية شفهي وغير مكتوب. وقد تعرض الآن لتدهور كبير في كل مكان. إنه معاش ومستبطن من قبل الفرد على هيئة عادة جسدية وعمقية توجه كل التصرفات الفردية والجماعية. وهذا القانون ليس منقولاً بواسطة تعاليم نظرية، وإنما هو متجسد باستمرار في الحياة اليومية في كل تعقيده الشكلاني والشعائري والاجتماعي والرمزي. وهناك دراسات وصفية عديدة لتجليات هذا القانون في المجتمعات والفئات الأكثر تنوعاً وبُعداً عن بعضها البعض من حيث المكان.
لا ريب في أن الاسلام قد أدخل متغيرات كبرى عندما ظهر، وذلك إذ فرض الدولة المركزية والكتابة التي ولدت في كل مكان نوعاً من التنافس مع التراث الشفهي، ثم إذ فرض قانوناً أدى إلى حدوث صراعات معروفة مع الأعراف المحلية. ولكن الانتشار السوسيولوجي لأدوات (تدجين) المجتمعات (المتوحشة) هذه قد حدّ منه في كل مكان بواسطة المقاومة التي أبداها نموذج العمل الاجتماعي ـ التاريخي ـ المدان في القرآن تحت اسم الجاهلية. وقد استعاد المناضلون المسيسون المعاصرون من أمثال سيد قطب في مصر هذا المصطلح (أي الجاهلية) للدلالة على المجتمعات المنحرفة الواقعة تحت هيمنة سلطات مضادة للاسلام وبالتالي لا شرعية.
لم تهتم الاسلاميات الكلاسيكية قط بهذا المعطى الحاسم من أجل معرفة أو فهم تركيبة المجتمعات الاسلامية بالأمس واليوم. فهي قد فصلت كلياً بين الاهتمامات المعرفية للفللوجيا التاريخوية/ وبين التحريات الميدانية الخاصة بعلم الاتنوغرافيا والاتنولوجيا. وبالتالي فقد حبست نفسها في إطار النصوص الفصيحة العالمة والكلاسيكية من أجل تشكيل إسلام مثالي متوافق مع إسلام التيولوجيين والفقهاء المسلمين أنفسهم.
لا يمكننا تحديد مكانة الشخص اليوم كما بالأمس قبل أن نبتدئ بدراسة سوسيولوجية للقانون الاسلامي. ففي داخل المجتمع نفسه كمصر، والعربية السعودية، وإندونيسيا، وتركيا، الخ، نلاحظ أن القانون الاسلامي ليس مطبقاً بالتساوي وبالدرجة نفسها على كل الفئات أو الطبقات التي تتعايش داخل الفضاء الاجتماعي نفسه. فالقانون البدوي، والقانون البربري، والقانون الكردي،... كلها مرتبطة بالمعارف المحلية. وقد قاومت إرادة الدولة الاسلامية لفترة طويلة من الزمن، على الرغم من محاولة هذه الدولة إخضاع كل مناطق (العصيان) هذه.
يضاف إلى ذلك أن درجة اختراق الثقافة واللغة العربية للبيئة المعنية هي التي تحدد أيضاً أنماط الانسان التي تظهر في كل بيئة اجتماعية ـ ثقافية. فمثلاً إذا ما نظرنا إلى منطقة القبائل الكبرى المزدحمة بالسكان في شمال الجزائر وجدنا أنه لا القانون الاسلامي ولا اللغة العربية ولا الثقافة العربية استطاعت أن تفرض نفسها قبل حصول الاستقلال عام 1962. والاسلام الذي نشره المرابطون هناك في الماضي اضطر إلى هضم قانون العرض المحلي وترسيخه، بالإضافة إلى الرأسمال الرمزي الذي يتميز بالمقاومة الشديدة لكل التأثيرات الخارجية. والكلام نفسه ينطبق على البربر في المغرب الأقصى وليبيا والعديد من الجماعات الأفريقية، الخ...
ينبغي أن نلاحظ هنا أن الصراع الذي دار بشكل لا يرحم بين المجتمع (المتوحش) والمجتمع (المدجن) كان قد ابتدأ سابقاً مع لحظة النبي في مكة والمدينة. ولم يتلق عندئذ، فقط، صيغة إيديولوجية نموذجية متمثلة بالقرآن، وإنما تلقى أيضاً أساساً (انطولوجياً) يخلع التعالي والتنزيه على هذا التضاد ذي الجوهر الانتربولوجي. نحن نعلم، بهذا الصدد، كيف أن القرآن وكل الفكر الاسلامي التالي قد عارض بكل حماسة وقوة بين ظلمات الجاهلية/ وأنوار الاسلام. فالجاهلية هي تلك المرحلة من التاريخ التي لم يكن البشر قد تلقوا فيها الوحي بعد. والمقصود بالوحي هنا تلك المعرفة الصحيحة إطلاقاً (أي العلم) التي علمها الله من أجل أن يعدل كل مؤمن من أعماله ويوجهها لكي تتلاءم مع منظور النجاة الأبدية. والاسلام هو انبثاق هذا العلم الذي يقود كل المؤمنين نحو الخلاص الأبدي في الدار الآخرة.
ولكن إذا ما استخدمنا مصطلحات علم الانتربولوجيا الاجتماعية والثقافية قلنا، إن الجاهلية هي المجتمع العربي قبل الاسلام وقانون العرض والشرف السائد فيه. ثم جاء الاسلام ونجح في فرض رأسمال رمزي جديد وتشكيل أفق أخروي يتم الحفاظ فيه على قيم قانون الشرف أو العرض، ولكن بعد أن تخلع عليها أردية التقديس والأنطولوجيا والتعالي من قبل خطاب الوحي. وقد راحت جماعة المؤمنين الأوائل القليلة العدد تؤمن عن طريق انخراطها الإيماني وجهادها وراءا لنبي، الترقية التاريخية (للانسان) المسلم، وبالتالي للمجتمع المسلم أيضاً. إن نموذج تشكيل الانسان في الاسلام وقدرة هذا النموذج على اختراق كل الحدود الثقافية ثم انبثاقه المتكرر الذي لا يقاوم في كل المنعطفات التاريخية التي تتميز بالغليان الاجتماعي والإيديولوجي، ثم توسعه الحالي في مواجهة تحدي الحضارة الصناعية، كل ذلك يمكن تفسيره بعوامل أربعة حاسمة:
1 ـ الطابع الفعال للخطاب القرآني وبنيته الأسطورية (أي المجازية الرمزية المنفتحة على المطلق وتعددية المعنى).
2 ـ القوة الحاملة والمثيرة للشعائر الدينية التي تتم بواسطتها عملية التجسيد المستمرة (بالنسبة لكل مؤمن (أي كل إنسان) وبالنسبة للأمة كلها) للمضامين المعنوية واندفاعات الأمل الأخروي التي أدخلها الخطاب القرآني لأول مرة، والتي وسعها وضخمها في ما بعد الخطاب الاسلامي.
3 ـ تأسيس دولة مركزية وديمومتها، وهذه الدولة حملت على عاتقها مهمة الدفاع عن ((الدين الحق)) (أي الأرثوذكسية)، ثم استمدت منه في خط الرجعة شرعيتها.
4 ـ تشكيل متخيل سياسي ـ ديني أثناء المرحلة التأسيسية للاسلام (610 ـ 632م)؟
وما انفك هذا المتخيل يستوعب التصورات (الأرثوذكسية) للاسلام الأولي لكي يولد في كل مكان تاريخاً (إسلامياً). وهذا التاريخ مقدم ومتصور على أساس أنه التطبيق الحرفي لنموذج السلوك الفردي والجماعي الذي دشنه النبي.
كان هذا المتخيل قد دشن لأول مرة من قبل ما دعوته بتجربة المدينة. وكل المبادرات التاريخية الكبرى التي حصلت في المجال الاسلامي كانت قد تولدت بواسطة هذا المتخيل. وهذه المبادرات والأعمال التاريخية تفترض نفسها توليد نمط معين من أنماط الانسان: أقصد النمط الذي كان قد استبطن كل التصورات والصور الرمزية المثالية المنقولة من قبل الخطاب الاسلامي التقليدي.
يمكننا أن نعيد كتابة تاريخ كل المجتمعات التي سادها هذا النموذج في الممارسة والعمل التاريخي عن طريق تبيان التداخل والتفاعل المستمر بين المتخيل السياسي ـ الديني المشترك لدى كل المؤمنين، وبين العقل التحليلي والتصوري والمنطقي للمثقفين الذين يحاولون إدخال نوع من التماسك العقلاني داخل مجال مخترق إلى حد كبير من قبل تصورات الخطاب الرسمي (أي خطاب الدولة ((الاسلامية)) ). أو مخترق من قبل الخطابات المنافسة التي تتناسب بشكل أفضل مع الأعراف الرمزية المحلية.
إن دراسة الانسان بصفته محلاً للحرية تحصل فيه عمليات الانتخاب والاصطفاءات والتركيبات التي ستشكل كل شخصية وستفرض على وجه الاحتمال (وعلى مستوى الجماعة المحلية أو القومية أو الأمة الدينية) ذلك الشخص، أو القائد، أو الإمام. أقول إن دراسة كهذه تصبح ضرورية ولا بد منها إذا ما أردنا أن نفهم الآليات الدقيقة التي تسيطر، في نهاية المطاف، على المصير الفردي والتطور التاريخي للمجتمعات البشرية.
يمكننا على ضوء هذه الملاحظات السابقة أن نركب سلسلة من الصور الشخصية (بورتريه) التي تتيح لنا أن نفسر شروط انبثاق (الرجال العظام) في المجتمعات وإشعاعهم، أو على العكس تصفيتهم وفشلهم في كل مجتمع من المجتمعات البشرية. يضاف إلى ذلك أنه بإمكاننا أن نعود من جديد، على ضوء المثال الاسلامي وبواسطته، إلى بلورة مفهوم الشخصية القاعدية الذي طرحه لأول مرة كاردينر ثم تخلى عنه الأنتربولوجيون في ما بعد.
والواقع، أنه كلما كانت الدولة مستبدة أو قوة سرية مغفلة تطمس آفاق الأمل لدى المجتمع المدني أو تتجاهلها، كلما راح المجتمع المدني يولد في أعماقه شخصيات مضادة أو قادة مضادين. واحتجاجات هؤلاء القادة وتمردهم أو المقترحات التي يطرحونها تعبر عن فلسفة أخرى للانسان.
وبين القادة الممسكين بزمام السلطة مع كل التكنوقراطيين المحيطين بهم، وبين القادة المضادين الذين يحلمون بالوصول إلى السلطة، بين الثقافة الرسمية وبين الثقافة المضادة لحركات المعارضة المذكورة، يوجد عَالَم المثقفين الذي اخترقته الحداثة قليلاً أو كثيراً. كما يوجد عَالَم رجال الدين الرسميين (أي العلماء) الذين يحاولون الحفاظ على سلطتهم وامتيازاتهم بصفتهم مديري القيم الدينية والمشرفين عليها. وهاتان الفئتان الاجتماعيتان الأخيرتان تمارسان دوراً لا يستهان به في عملية تحديد شروط تكوُّن الانسان وتحقيق ذاته على أرض الواقع أو استلابه. إن علماء الدين الرسميين والمثقفين المحدثين يسمحون لأنفسهم غالباً بالانجذاب إلى دائرة الدولة. فهم في الواقع موظفون من قبَل الدولة التي تدفع لهم رواتبهم. وبالتالي فهم مضطرون للتقيد بموقف التحفظ والحذر، هذا إذا لم ينخرطوا بشكل صريح وواضح في خدمة الإيديولوجيا لتسويغ شرعية الدولة. وعندئذ نلاحظ أن الوظيفة النقدية التي كان يقوم بها العلماء التقليديون (أي ممارسة الرقابة اللاهوتية والأخلاقية) قد ألغيت كلياً في عصرنا الراهن. أما المثقفون المعجبون بموقف الاستقلالية الذي يتمتع به زملاؤهم الغربيون فهم يفضلون إما حياة المنفى، وإما ممارسة الرقابة الذاتية على أنفسهم، وإما البحث عن الحصول على الاعتراف الرسمي بهم نظراً لمعرفتهم بالحاجة إليهم. فكل مجتمع مضطر لأن تكون لديه مرجعية (علمية) يعود إليها عند الحاجة. وإذا ما راقبنا الفترة الزمنية الممتدة ما بين لحظة الاستقلال وحتى اليوم، وجدنا أن أياً من المجتمعات الاسلامية أو العربية لم يسمح بظهور فئة من المثقفين المستقلين النقديين المؤثرين عن طريق ممارستهم للعمل الدؤوب والمستمر، إلى الحد الذي يتيح لهم تشكيل ذروة الهيبة الثقافية أو السيادة الفكرية العليا. ومن المعروف أن هذه الذروة ضرورية من أجل تفتح الانسان وازدهاره. ذلك أن الانسان يصبح وعياً بواسطة (مديونية المعنى)، أقصد يصبح وعياً مضطراً للتواصل مع مجموعة وعي أخرى (أو ضمائر أخرى). وكلها ترتبط في نهاية المطاف بمرجعية واحدة هي: سيادة الحقائق الإجبارية أو الملزمة. ولا يزال من الصعب أن نلتقي بهذا النمط من المثقفين أو الفنانين أو القادة السياسيين الذين يعترفون برسالة الانسان ويحمونها ويؤكدون عليها: قصدت الانسان بصفته نقطة البداية والنهاية لكل فلسفة.
إن الخاصية الأخلاقية المحركة والمميزة للوعي الاسلامي هي علاقته المباشرة مع مطلق الله. وهي علاقة معاشة من خلال التكرار الشعائري الذي تفرضه الفرائض العبادية، ثم من خلال التأمل بكلام الله والإعجاب بروائع صنع الله في الكون والمخلوقات، وتقديم الطاعة الرضية للقانون الأكبر، واختزال العقل من أجل تحويله إلى مجرد خادم مقيد، والرفض الجذري لكل تعددية آلهة تؤدي إلى جعل قيمة الله نسبية وتوقف عملية البحث عن المطلق.
ما الذي بقي من هذا المقصد الأخلاقي والروحي الاسلامي في وعي الناس المعاصرين أو ضمائرهم؟ أقصد هؤلاء الناس المشغولين كلياً بالتنافس الشديد الذي لا يرحم من أجل اقتناص السلطة السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية. أو ما الذي تبقى منه في سلوك الطبقات الوسطى المتلهفة لعملية الارتقاء والصعود في السلم الاجتماعي؟ أو ما الذي تبقى منه في متخيل المناضلين السياسيين الساعين لإقامة نظام اسلامي (أصيل أو صحيح)؟ وهل توجد ذروة للهيبة أو للسيادة يمكن للانسان أن يستمدّ منها هدايته ويمتحن صلاحية وأهمية القيم التي تشكل شخصيته وتفرضها بصفتها تلك على المجتمع؟
لكي نجيب عن هذا السؤال سوف نطرح، أولاً، سؤالاً آخر: هل يمتلك الفكر الاسلامي اليوم الوسائل العقلية والثقافية، أو الحريات والأطر الاجتماعية التي لا بد منها من أجل تشكيل فلسفة حديثة للانسان؟
طالما تحدث الخبراء والباحثون في السابق عن مشاكل سوء التنمية الاقتصادية والاجتماعية في العالم الثلاث دون أن يولوا نفس الأهمية للتأخر الثقافي الذي زاد من حدته المأساوية فرض النماذج الغربية في ما يتعلق بكل شؤون الحداثة المادية. كل المجتمعات الاسلامية والعربية تعاني اليوم من نتائج هذا التفاوت بين الطلب الجامح لحضارة الاسهلاك، وبين رفض الحداثة الفكرية والثقافية. إن الجامعات التي أنشئت مؤخراً في بلدان اسلامية عديدة، وخصوصاً في أغناها من حيث الموارد في العملة الصعبة كالعربية السعودية أو الجزائر، أقول إن هذه الجامعات تقدم لنا مثالاً صارخاً على الطلاق والانفصام الواضح بين الحداثة المادية أو الشكل الخارجي للجامعات من جهة، وبين الشك والارتياب بعلوم الانسان والمجتمع من جهة أخرى (فهذه الجامعات تتميز بفن عمارة من آخر طراز كما أنها تحتوي على مخابر مجهزة جيداً في ما يخص العلوم (الدقيقة)، كما أنها منفتحة على التكنولوجيا وعالم الإنتاج الصناعي). أما الاسلام، كدين، فيظل حكراً على كليات الشريعة أو الجامعات التقليدية كالأزهر والزيتونة والقيروان. وقد أعلنت هذه الجامعات منذ وقت طويل عن رغبتها في التحديث. ولكنها ظلت على الرغم من ذلك الحارسة الأمينة (للأرثوذكسية الاسلامية) والأماكن التي تؤبد تكرارها وإعادة إنتاجها باستمرار. وإلى هذه الأماكن يجيء قادة الحركات الاسلامية، لكي يستمدوا غذاءهم العقائدي.
إن الجهود والأعمال الضرورية لاستيعاب الحداثة الفكرية داخل فكر يسعى جاهداً لاستحقاق صفة (الاسلامي) متوافرة وموجودة. ولكنها من صنع أشخاص معزولين ومهمشين يعيشون مشتتين في بلدان الغرب، أو أنها من صنع أشخاص مجهولين أو متجاهلين أو محاربين بعنف داخل بلدانهم الأصلية بالذات.
وينتقل المثقفون الذين لمستهم الحداثة النقدية من تنازل إلى تنازل، ومن خضوع تكتيكي إلى استبطان (للقيم) المحمولة من قبل المخيال المشترك. ويؤدي ذلك بهم بالتالي إلى أن يخلطوا بدورهم بين ضرورات البناء الوطني والانخراط الايديولوجي الذي يتطلبه بالضرورة، وبين أولوية الجهد الفكري المحض والجهد الثقافي والروحي من أجل ممارسة حق الروح الانسانية في الحقيقة وحماية هذا الحق وإعلاء شأنه. وفي هذا التمييز الأساسي يكمن في الواقع حظ الانسان في تأكيد ذاته واحتلال مكانته.
ينبغي أن نطرح هنا هذا السؤال: ماذا يتبقى من المكانة الحقيقية للانسان إذا كان حق التفكير والتعبير والنشر واستيراد وتصدير الكتب من كل نوع مراقب ومضبوط بشكل كامل من قبل وزارة الإعلام أو وزارة (التوجيه القومي)؟
إن الإيديولوجيا القوموية والطالبة بالعودة إلى إسلام أسطوري، يمارسان اليوم على العقل العلمي الضغوط نفسها التي مارستها الأستاذية العقائدية للفقهاء على العقل في القرون الوسطى.
إن الشخص المكوّن معرفياً داخل هذا السياج الدوغمائي المغلق لا يمكنه أن يفكر بمسألة الإيديولوجيا. على العكس، إنه يتلقى نصاً كنص الفريضة الغائبة بمثابة الصحيح كلياً.
وأنا إذ أتحدث عن وجود خطاب قرآني مفتوح معرفياً، فإني لا أدخل بدوري ضمن إطار السياج الدوغمائي المغلق الذي انتهيت من وصف مخاطره للتو، وإنما أتصور القرآن على هيئة فضاء لغوي تشتغل فيه عدة أنماط من الخطاب (الخطاب النبوي، والخطاب التشريعي، والخطاب القصصي، والخطاب الوعظي والأمثال...). فهذه الخطابات تشتغل في القرآن في ذات الوقت وتتقاطع أيضاً. إن التحليل اللغوي والسيميائي البحت لهذه الخطابات يتيح لنا أن نستخرج البنية الأسطورية المركزية للقرآن، هذه البنية التي تستخدم الرمز والمجاز من أجل أن تخلع على العبارات القرآنية إمكانيات افتراضية عديدة للمعنى والدلالة. وهذه الإمكانيات قابلة للتحيين والتجسيد في الظروف الوجودية المتواترة والمتكررة.
هذا يعني أن التضاد الذي أقيمه هنا بين المغلق/ والمفتوح ليس تجريدياً ولا إيمانياً، وإنما يمكن التحقق من وجوده عملياً، أي لغوياً وتاريخياً عن طريق التفاعل والتأثير المتبادل المستمر بين اللغة والتاريخ والفكر. وهي الذرى الثلاث لإنتاج المعنى. إن قراءة القرآن تجبرنا على الربط بين هذه الذرى الثلاث التي تدرس عادة بشكل منفصل من قبل الاختصاصيين (علماء الألسنيات، المؤرخون، الفلاسفة).
إن القوة الإقناعية والتعبوية للخطاب الاسلامي تزداد فعاليتها وقوتها كلما أوردت الاستشهادات العديدة من النصوص المقدسة أو التي جرى تقديسها من قبَل المؤمنين (كنصوص ابن تيمية مثلاً). فكلما أعادوا تحيينها واستملاكها وتطبيقها من جديد على أوضاع اجتماعية وسياسية مختلفة ومعاشة من قبل جماهير المسلمين كلما استطاعوا تحريكها أكثر فأكثر. وأما في داخل الفكر الاسلامي نفسه فيمكننا أن نعترض على هذه الطريقة في الاستشهاد بالنصوص القديمة، أو على الأقل مناقشة صلاحيتها من حيث المعنى والسياق والمشروعية اللاهوتية لاستخدام القرآن والحديث لأغراض كهذه. وهناك، أيضاً، مسألة تعدد المذاهب والمناهج التأويلية التي أدت في العصر الكلاسيكي إلى استخدامات مختلفة للاستشهاد. أن الإجماع السياسي الحاصل بين الحركات الاسلاموية منذ السبعينات يميل إلى جعلنا ننسى تلك الرهانات اللاهوتية والمناقشات التأريخية ذات الأهمية الحاسمة، أو المعتبرة كذلك، من قبَل المفكرين الكلاسيكيين. هكذا نلاحظ إذن حصول نوع من الزحزحة الإبستميائية داخل النظام المعرفي الخاص بالفكر الاسلامي ذاته. فمبدأ العودة إلى النصوص التأسيسية لا يزال سارياً، بل وقد تصلب وتشدد أكثر. ولكن التلاعب المعنوي والاستدلالي المنطقي بالنصوص قد أصبح خاضعاً كلياً للغائية الإيديولوجية والسياسية التي تستبعد كل المجريات (العلمية) التي ينبغي أن يعرفها ويسيطر عليها كل إمام مجتهد (نقصد بالمجريات العلمية دراسة البنية النحوية والمعنوية والبلاغية للنصوص. ثم السيطرة على علم التاريخ واللاهوت وحتى الفلسفة. وهذا ما كان يتمتع به العلماء الكلاسيكيون، ولكنه غائب تماماً من اهتمامات الإيديولوجيين الحاليين وقادتهم المسيسين).
إن الشخص (المسلم) يتشكل ويؤكد ذاته داخل السياج الدوغمائي المغلق الذي يقدمونه على أساس أنه المكان الوحيد (للحقيقة) الأرثوذكسية المتعذر استبدالها أو تغييرها. وهنا نجد أمام أعيننا حيزين أو فضائين في آن معاً: الحيز الأول يشكل ما ندعوه بالمسموح التفكير فيه إسلامياً، والحيز الثاني المستحيل التفكير فيه داخل السياج الدوغمائي المغلق. بمعنى آخر، فإنه لا يمكن لأي شخص أن يتوصل إلى الحيز الثاني إلا إذا انتهك حدود السياج الدوغمائي المغلق.
عندما ينظر المؤرخ التاريخوي الوضعي وعالم الاجتماع الحديث إلى هذه التصورات والأفكار، فإنهما لا يريان فيها إلا نوعاً من المغالطة التاريخية وإلغاء تاريخية المعنى الخاضع بطبيعة الحال للتقلبات السياسية والاقتصادية والثقافية التي تحل بالمجتمعات البشرية. وهنا ينبغي علينا أن نعترف بوجود قطيعة بين النظام المعرفي الخاص بمجتمعات الكتاب/ والنظام المعرفي الذي تتبناه مجتمعاتنا الصناعية الموحدة من قبل التكنولوجيا والمعلمنة. ولكي نفهم مثل هذه القطيعة أو لاوضع، فإنه ينبغي التخلي عن منهجية التاريخ الراوي وعلم الاجتماع الوصفي والالتحاق بمنهجية علم الأنتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية التي هي وحدها قادرة على شرح المسألة. فالواقع أن النظام المعرفي الاسلامي هو ذو جوهر أسطوري، وبالتالي فمن الخطأ أن نحاكمه أو ندرسه بمعايير المعرفة التاريخية المعقلنة أو ضمن منظورها وحده فقط. ومن المعروف أن هذه المعرفة ومنهجيتها تتحول أحياناً إلى وضعية بحتة أو حتى تأريخوية فقط، وذلك لدى الكثير من المؤرخين المسلمين والغربيين.
قبل أن نتفحص كيف يحاول الفكر العلمي المعاصر أن يتجاوز هذه النظرية الاختزالية للدين، فإنه ينبغي علينا أن نشير إلى أن الفكر الاسلامي لا يزال منغلقاً في سياجه الدوغمائي. وبالتالي فهو لم يعرف، حتى الآن، تلك المسارات التربوية والتثقيفية وتلك الحلول العملية التي شهدتها المجتمعات الغربية منذ القرن الثامن عشر. والجهل بتلك المسارات هو ما كنت قد دعوته باللامفكر فيه داخل الفكر الاسلامي. وهذا يدفعنا للإحساس بضرورة إقامة المجابهة والمقارنة بين الفكر الاسلامي والفكر العلمي، في الوقت الذي نبقى فيه يقظين ومفتوحي الأعين في ما يخص مسألة العلمية.
من البدهي أن الفكر الاسلامي، كما هو ممارس عليه في الخطاب الاسلامي المشترك، سوف يرفض قطعياً، ودون أن تفحص، مبدأ مثل هذه المجابهة والمقارنة ذاتها. وهذه هي استراتيجية الرفض المعروفة جيداً في كل الأنظمة المعرفية المغلقة. ولكننا نستنتج من هذا الرفض مطلباً مشروعاً يتمثل في ما يلي: ضمن مقياس أن الفكر العلمي المعترف به من قبل جماعة الباحثين المعاصرين هو مرتبط بالتجربة التاريخية الغربية واللغات الغربية، فإنه ينبغي علينا أن نحذر من تكرار الخطأ الذي وقعت فيه الفلسفة الأرسطوطاليسية عندما نصبت المقولات التي نحتها وبلورها المعلم الأول من خلال اللغة الإغريقية بصفتها مقولات كونية.
ن الميراث الثقافي والفكري والروحي المتراكم داخل التراث الاسلامي يغذي دائماً الحلم بمثال الانسان أو بالانسان المثالي (أو الانسان الكامل) كما كان الله قد حدد ملامحه وطرق وجوده أو تحققه، وكما كان الأولياء الصالحون والصوفيون والمفكرون قد اختطوا مساره في حياتهم الشخصية وفي الرواية التي خلفوها لنا عن تجربتهم في آن معاً. هناك حنين جبار للكينونة لا ينفصل عن (الرغبة العميقة في البقاء)، هذه الرغبة التي تعذب كل روح بشرية ذات تواصل مع الوعد بالأبدية. وهذا الحنين يحرك المسلم بالطريقة نفسها التي يحرك بها المؤمنين اليهود والمسيحيين المفعمين بوعود الكتابات المقدسة. وهذا المعطى الذي لا يختزل في أعماق الانسان العائش في مجتمعات الكتاب، هو الذي يحاول أن يعبر عن نفسه أن يتجسد من جديد في الأشكال العديدة والنماذج المختلفة للوجود التي تقترحها علينا الحداثة. وإنها لحقيقة أن الفكر العلمي يميل إلى اختزال هذا المعطى المشكل للشخص البشري، بدلاً من أخذه بعين الاعتبار ودمجه في محاولته الجاهدة من أجل عظمة الانسان، عن طريق آخر غير طريقة المتخيل المعقلن الذي يكتفي، في معظم الأحيان وبشكل أكثر مما ينبغي، بإحلال نفسه محل المتخيل الأسطوري