تمهيد في حقيقة الترك:
الترك في اللغة: ودع الشيء وتخليته. هكذا في (لسان العرب).
وفي المواقف وشرحه: (الترك في اللغة: عدم فعل المقدور، سواء قصد التارك أو لم يقصد، كما في النوم، وسواء تعرض لضده أو لم يتعرض. وأما عدم ما لا يقدر عليه فلا يسمى تركاً. ولذا لا يقال: ترك فلان خلق الأجسام.
وقيل إن الترك: عدم فعل المقدور قصداً، فلا يقال: ترك النائم الكتابة. ولذا لا يتعلق به المدح والذم.
وقيل إن الترك: من أفعال القلوب: لأنه انصراف القلب عن الفعل، وكفّ النفس عن ارتياده. وقيل هو فعل الضد لأنه مقدور، وعدم الفعل مستمر. فلا يصلح أثراً للقدرة الحادثة). اهـ.
فبناء على أوسع الاصطلاحات مما ذكره، نقول: الترك نوعان: ترك غير مقصود وترك مقصود.
فأما الترك غير المقصود فواضح انه سلب محض. وهو ليس موضعاً للقدوة، ولا يستدل به على طريقة الاستدلال بالأفعال، فلا يدل على جواز ولا كراهة ولا تحريم. ويقول ابن تيمية في سياق كلامه عن دخول الحمامات: (ليس لأحد أن يحتج على كراهة دخولها، أو عدم استحبابه، بكون النبي (ص) لم يدخلها، ولا أبو بكر وعمر، فإن هذا إنما يكون حجة لو امتنعوا من دخول الحمامات، وقصدوا اجتنابها، أو أمكنهم دخولها فلم يدخلوها. وقد علم أنه لم يكن في بلادهم حينئذ حمام، فليس إضافة عدم الدخول إلى وجود مانع الكراهة أو عدم ما يقتضي الاستحباب بأولى من اضافته إلى فوات شرط الدخول وهو القدرة والإمكان.
وهذا كما أن ما خلقه الله في سائر ا لأرض من القوات واللباس والمراكب والمساكن لم يكن كل نوع منه كان موجوداً بالحجاز. فلم يأكل النبي (ص) من كل نوع من أنواع الطعام القوت والفاكهة، ولا لبس من كل نوع من أنواع اللباس. ثم إن مَن كان من المسلمين بأرض أخرى كالشم ومصر واليمن وخراسان وغير ذلك، عندهم أطعمة وثياب مجلوبة عندهم أو مجلوبة من مكان آخر، فليس لهم أن يظنوا ترك الانتفاع بذلك الطعام واللباس سنّة، لكون النبي (ص) لم يأكل مثله ولم يلبس مثله، إذ عدم الفعل إنما هو عدم دليل واحد من الأدلة لاشرعية. وهو أضعف من القول، باتفاق العلماء. وسائر الأدلة من أقواله كأمره ونهيه وإذنه، ومن قول الله تعالى، هي أقوى وأكبر. ولا يلزم من عدم دليل معين عدم سائر الأدلة الشرعية). اهـ.
وأما الترك المقصود، فهو الذي يعبر عنه بالكف، أو الإمساك، أو الامتناع.
هل الكفّ فعل من الأفعال؟
يرى كثير من الأصوليين أن الكف فعل من الأفعال، وهو عندهم فعل نفسي. ونُسب إلى قوم، منهم أبو هاشم الجبائي، إن الكف انتفاء محض، فليس بفعل.
والأول أولى، كما هو معلوم بالوجدان.
وأيضاً نحن نجد في الكتاب والسنة إشارات إلى أن الكف فعل، منها قوله تعالى: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون) المائدة/ 63، فسمى الله تعالى ترك العُبّاد والعلماء للنهي عن المنكر صنعاً، والصنع فعل. ومنها قول النبي (ص): (عُرِضت عليّ أعمال أمتي حسنها وسيئها فوجدتُ في محاسن أعمالها إماطة الأذى عن الطريق، ووجدت في مساوئ أعمالها النخامة تكون في المسجد لا تدفن). فجعل ترك دفنها ممن يراها عملاً سيئاً.
ومن أجل ما في فعلية الكف من الخفاء، ولأجل التباسه بالترك العدميّ، أخرجناه من حيّز الأفعال الصريحة.
وقد نعبّر فيما يأتي من هذه الرسالة عن الكف والإمساك بـ(الترك) وحيثما عبّرنا به فإنما نعني به الكف خاصة دون الترك غير المقصود، إذ قد تبين أن الترك غير المقصود خارج عن الفعلية أصلاً.
- تقسيمنا لمباحث الترك:
الترك إما عدميّ: وهو أن النبي (ص) أغفل الحكم في أمور لم تعرض له ولم تحدث في زمانه، فترك فعلها، وترك القول في شأنها، لعدم المقتضى لذلك القول والفعل. ويذكره الأصوليون في أبواب مختلفة، كباب القياس، والمصلحة المرسلة، وغير ذلك. ويتعرض له الكاتبون في البدعة.
وأما نحن فسوف نغفل الكلام فيه، لأنه خارج عن نطاق بحثنا، إذ بحثنا خاص بالأفعال النبوية، وهذا النوع ليس فعلاً أصلاً.
وإما وجوديّ: وهو الكف، وهو أن يقع الشيء، ويوجد المقتضي للفعل أو القول، فيترك الفعل والقول، ويمتنع عنهما.
وهذا القسم نوعان:
الأول: ترك الفعل والإعراض عنه.
والثاني: ترك القول، وهو على منزلتين، لأنه إما سكوت عن الجواب وغيره من أنواع القول ما عدا الإنكار.
وإما سكوت عن الإنكار خاصة، فيسمى التقرير.