بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً ، وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون : موضوع هذا الدرس متعلق بالعقيدة ، متعلق بمفهوم الزمن ، ومتعلق بالموت ، قال تعالى :
( سورة الملك )
آية خطيرة ، فوجودك في الأرض مقرونٌ بالابتلاء ، والامتحان ، فإن الله خلَق الموت ، وخلق الحياة ، الموت مخلوق ، يخلق الموت خلقاً ، هذه الخلايا يأتيها الغذاء فتنمو ، ويأتيها الغذاء فتعيش ، وتستمر ، ولكن هناك عوامل تسبب موت الخلايا ، هذا الموت يتعاظم إلى أن يسبب موت الإنسان .
كما أنك مخلوق لتحيا فمع خلْقِ الحياةِ خلْقُ الموت ، قال تعالى :
( سورة الملك )
أيها الإخوة الكرام : أنا أتصور أن الذي يُدخل مفهوم الموت مِن بابِ التشاؤم مخطِئٌ ، بل الموتُ حقيقةٌ تنقلك إلى جنة الله عز وجل ، تنقلك إلى الأبد ، إلى السعادة العظمى المطلقة ، أن تُدخل مفهوم الموت في حسابك ، أو أن تدخل مفهوم الزمن فهذا صحيح ، والناس الغافلون يعيشون غفلتهم ثم يموتون ، لكن لو عرف كل إنسان أنه يعيش أيام محدودة معدودة تمضي سريعاً ، ثم سيواجه حساباً دقيقاً ، وسيواجه حياةً أبديةً ؛ فإما لجنة يدوم نعيمها ، وإما إلى نار لا ينفذ عذابها ، لاختلفت حالهم اختلافاً كلياً ، المشكلة الغفلة ، الإنسان يعيش مع الناس ، يعيش بحكم حياته المستمرة ، لكن لو وقف ، وقال : مَن أنا ، ما علاقتي بالزمن ؟ أنا بضعة أيام ، لماذا خُلِقْتُ ؟ فعليه حينئذٍ أنْ يعرف لأنّه خُلِق للابتلاء ، وما هو أخطر حدث في حياتي ؟ إنه الموت .
أخطر حدث نهاية الدنيا ، وكل المكتسبات تلغى عندئذٍ في ثانية ، كان رجلاً فصار خبراً على الجدران .
فيا أيها الإخوة : أول نقطة في هذا الدرس أن كل شيء خلقه الله عز وجل له بداية وله نهاية ، قال تعالى :
( سورة يس )
( سورة التكوير )
( سورة الأنبياء )
أول حقيقة أنّك كإنسان ، وكذلك الحيوان ، وكذلك النبات ، كل شيء خلقه الله عز وجل له بداية ، وله نهاية ، لكن الله قديم أزلي ، هو الباقي الحي على الدوام ، ليس له بداية ، وليس له نهاية .
الشيء الثاني أنْ تعلم في هذه الحياة المحدودة ، التي لها بداية ومن نهاية أنّ البداية لها مائة طريق مفتوحةٍ أمامك ، لكن النهاية لا يبقى أمامك إلا طريقان ، طريق الجنة وطريق النار .
والذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من دار ؛ إما الجنة أو النار ، لذلك قدم الله الموت على الحياة تقديم أهمية ، فالإنسان حينما يولد يكون أمامه مليون خيار ، ينحرف فيتوب ، فهذا خيار التوبة ، ينحرف فيسترجع ، يستغفر ، يستقيم ، فالبدايةً تفتح أمامك ألف طريق ، أما حين يأتيه مَلَك الموت فليس أمامك إلا طريقان ، طريق الجنة أو طريق النار .
والناس في الدنيا يصنفون بمئات الأصناف ، إلا يوم القيامة فإنهم جميعاً إما مؤمن وإما كافر ، قال تعالى :
( سورة آل عمران )
( سورة آل عمران )
( سورة القيامة )
( سورة القيامة )
( سورة عبس )
كلام متعلق بالعقيدة ، هذا الدرس مأخوذ من دروس العقيدة ، أول مفهوم : أنّ كل شيء خلقه الله له نهاية ، والدنيا أمامكم ، والناس أمامكم ، كل واحد من إخواننا الكرام له أقرباء قد ماتوا ؟ كان أحدُهم ملءَ السمع والبصر ، فأصبح خبراً ، ونحن على هذا الطريق ، وسيأتي يوم لا يبقى فبه أحد في هذا المسجد ، بل فوق الأرض ، كلهم تحت الأرض ، وكل إنسان رهين عمله ، قال تعالى :
( سورة المدثر )
وهناك شيء آخر ، أن هذه الحياة الدنيا - دققوا - فيها أشياء تنفعل لك ، لا تحتاج إلى سعي ، ولا إلى بحث ، ولا إلى كسب ، ولا إلى طلب ، فالشمس يستوي الناس جميعاً في عطائها ، والهواء ليس فيه فاتورة ، فقد تُطالَب بفاتورة الهاتف ، وفاتورة الكهرباء ، وفاتورة الماء ، لكنْ والحمد لله فاتورة الهواء لا وجود لها ، فاتورة شمس مشرقة لن تصلك ، ولن تُطالَب بشيء منها.
مرة كنت في مكان جميل مرتفع ، والدنيا حر في الأماكن الأخرى ، لكن حولنا نسمات عليلة ، قلت : واللهِ لو خطر في بالهم لوضعوا على هذه النسمات العليلة ضريبة ، هذه الأشياء تنفعل لك ، لكن هناك في الأرض أشياء لا تأخذها إلا بالأسباب ، فكوننا كونُ الأسباب لن تستطيع أن تستخرج الماء إلا إذا حفرت البئر ، فالماء الذي في باطن الأرض ينفعل بك ، أما الهواء فلَكَ ، الشمس لك ، لكنّ الماء والأرض إن لم تحفر لم تأخذه ، ولن يصل إليك .
النبات مسخر لك لكن بك ، لابد من أن تزرع ، العلم ينفعك إذا طلبته إن لم تطلب العلم لا تنتفع بالعلم ، يمكن أن نسمي هذا الكون كون الأسباب ، قال تعالى :
( سورة الانشقاق )
حتى إنّ الإنسان يملك بيتًا صغيرًا في أطراف المدينة ، ودخله محدود ، يقول لك : متُّ ألف موتة حتى اشترينا بيتًا مِن ستة وخمسين مترًا بتسع مائة ألف ليرة ، ويحتاج إلى مائة ألف أخرى ، فعليك جهد ، وعمل يومي ، ومشقة ، من أجل أن تشتري بيتًا صغيرًا ، فنحن في كون الأسباب ، أما إذا انتقلنا إلى الدار الآخرة فنحن عندئذٍ في كون الإكرام ، قال تعالى :
( سورة الزمر )
الأسباب معروفة ، والثمن ليس له حساب ، الطلب محقَّق ، فأيُّ شيء تطلبه سهلٌ ومتوفّر ، أي شيء يخطر في بالك تجده أمامك ، قال تعالى :
( سورة الحاقة )
الفاكهة لا مقطوعة ولا ممنوعة ، أكلها دائماً وظلها ، بين كون الأسباب وكون الإكرام مسافة كبيرة جداً ، ففي الدنيا مِن أجل أنْ تضع إلى جانب اسمك دالاً ونقطة تحتاج إلى ثلاث وثلاثين سنة دراسة ، تقوم بهذه الدراسة بالجهد والمشقة ، ثم تحتاج إلى اختصاص لا قيمة لها إلا باختصاص ، عشر سنوات اختصاص بالخامسة والأربعين ماذا بقي ؟ هكذا الحياة ، نحن في كون الأسباب ، نحن في كون الكدح ، في كون الجهد ، والامتحان ، والابتلاء ، قال تعالى :
( سورة الملك )
لكنّا خلقنا للجنة ، لجنة الإكرام ، نحن الآن في دار تكليف لكنا سندخل في الجنة إن شاء الله ، وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يكرمنا بدخولها ، نحن مخلوقون لدار التشريف ، نحن في دار العمل الآن ، ومخلوقون لدار الجزاء في خاتمة المطاف .
والله يا أيها الإخوة ، أحمق الناس ، وأغبى الناس هو الذي زهد بالدار الآخرة وطمع بالدنيا ، والدنيا والله مقامرة ومغامرة ، لأنها لا تستقيم على حال ، ويمكن أنْ تغادرها وأنت في أوجك ، أكثر الناس يتعلم دروسًا حتى تتنامى خبراته ، وصارت علاقاته بالناس واضحة جداً ، وقلما يستطيع أحد أن يخدعه ، ذكاء ، خبرات ، ضبط كل شيء دقيق ، حينما تكتمل خبراته يضعف جسمه ، مفارقة عجيبة ، الشاب أحياناً يأكل الحلفا كما يقولون ، عندما تتنامى أذواقه في الطعام لا يتحمل جسمه آثارَ الطعام ، فلا يستطيع أن يأكل هذا الطعام ، وقد يعيش في الحرمان ، وإذا أفرط تعاقبت عليه المشاكل والويلات والآلام .
حياتنا حياة كدح ، حياة امتحان ، حياة ابتلاء ، والإنسان إذا وطَّن نفسه أن يكون في هذه الحياة جندياً لله عز وجل فإنه تنتظره سعادة أبدية كبيرة .
شيء آخر ، مفهوم الزمن أمرٌ دقيق ، قضية غامضة جداً أحاول توضيحها ، مرة ذكرت أنّ أيّ شيء له طول ، نقطة هندسية حركتها رسمت خطاً ، الخط حركناه فرَسَم سطحاً ، السطح حركناه فشكّل حجماً ، الحجم حركناه فشكّل زمناً ، فمفهوم الزمن غامض قالوا عنه : إنه البعد الرابع للأشياء .
الزمن ما يطرأ على الشيء بفعل حركته بالضبط ، أهل الكهف لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين ، وازدادوا تسعاً ، الزمن يجب أن يطيل أظافرك ، وأن يطيل شعرك ، وأن يبيض الشعر ، وأن يتجعد جلد الوجه ، وأن تنحني القامة ، استيقظوا كما ناموا ثلاثمائة أعوام وتسعة ، كما ناموا استيقظوا ، فأين الزمن ؟ الله عز وجل أبطل فعل الزمن مع أهل الكهف .
ولقد قال سيدنا عمر بن عبد العزيز : ((الليل والنهار يعملان فيك)) ، وأوضح سبب خذ صورةً لك قبل عشرين عامًا ، أو قبل ثلاثين عامًا ، ووازن بينها ، وبين الصورة الحديثة ، كان شعرك أسودَ كثيفًا ، اختلف لونه ، اختلفت ملامح الوجه ، كل ما فيكَ اختلف ، هذا من فعْل الزمن ، كائن متحرك مع الحركة تصيبه تغييرات وتعتريه أطوارٌ .
لكن الله عز وجل هو خالق الزمن ، والموت أحد مخلوقاته ، ولأنه أحد مخلوقاته يمكن أن يعطله ، كما عطَّله مع أهل الكهف ، وعطله أيضاً مع هذا الذي قال عنه الله :
( سورة البقرة )
أماته مائة عام ، ثم بعثه ، ربنا عز وجل وضَعنا أمام أمْرين ، عطَّل فعْلَ الزمن في الطعام والشراب ، فبقي طازجاً طيب الطعم مائة عام ، وسلّط الزمن على الحمار ، فكان عظاماً نخرة ، هناك بُعْد رابع للأشياء .
وكتقريب للمعنى تجد سيارة جديدة خرجت من معملها ، وصاحبها يعتني بها عناية كبيرة جداً ، فانظر إليها بعد خمسة أعوام تجد فرقًا واضحًا ، فرق الاستعمال ، هذا من أثر الزمن ، شيء متحرك تقع عليه تغييرات الزمن .
أيها الإخوة : الإنسان أصبح زمنًا ، وهو بضعة أيام ، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه ، واللهِ إن هذا المفهوم وحده لو أدركنا حقيقته لما نِمْنَا الليل ، إنسان عاش ستين سنة ، ولسبب أو لآخر ربما لا نستطيع أن نعد كل حركاته وسكناته ، ذاق ستين صيفاً وستين شتاءً وستين خريفاً وستين ربيعاً ، أنجب خمسة أولاد ، واعٍ ، صاحٍ ، وعاش خمس مناسبات ، زوجته على وشك الولادة ، ألا نستطيع أن نعدّ له كم سفرة ؟ نستطيع ، كم دعوة لباها ؟ معدودة ، كم مرة بكى ، كم مرة ضحك ؟ الإنسان بضعة أيام .
مرة قابلت إنسانًا في بلد إسلامي وهو رجلٌ عالمٌ ، والتقطوا لنا صورًا في هذه الجلسة رأيتها قبل أيام ، الرجل توفي رحمه الله ، وأنا أنظر إليه يتحرك ، ويتكلم ، ويشرح هذه الآية ، ويشرح هذا الحديث ، ويأتي بأدلة كثيرة ، لكني أنظر إليه الآن فهو تحت أطباق الثرى مضى إلى ربه .
مفهوم الزمن أنّ الإنسان بضعة أيام ، كلما انقضى يوم انقضى بضع منك ، هناك علماء في الفيزياء ، والموضوع درسوه من وجهة نظر فيزيائية ، هكذا قالوا : في الكون سرعة ثابتة ، هي سرعة الضوء ، تقريباً ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية ، بالدقة مائتان وتسعة وتسعون وثمانمائة واثنا عشر ألف كيلو متر في الثانية ، أي جسم سار بسرعة الضوء يصبح ضوءًا ، يمكن لطفل صغير مثلاً لو أتيح له أنْ يطير بسرعة الضوء فهذا الطفل يصبح ضوءًا ، وتصبح كتلته صفراً ، وحجمه لا نهائياً ، هذا مبدأ إنشتاين ، ويعد أعلم علماء الفيزياء ، وجاء بنظرية النسبية ، وهي أخطر النظريات .
فالشيء إذا سار مع الضوء أصبح ضوءًا ، وتوقف الزمن بالنسبة له ، هذا المسجد ونحن أجسام ، ونتلقى منبعًا ضوئيًّا مِن المصابيح ، هذا الضوء يأتي إلينا ، وينعكس منا موجات ضوئية ، لو تصورنا أن هذه الموجات صاعدة في الفضاء الخارجي ، ولو أن واحدًا منا استطاع أن يطير مع هذه الموجات لرأى هذا المسجد ، وهؤلاء الإخوة الكرام إلى أبد الآبدين ، وقد انعدم الزمن ، يكون الدرس انتهى بعد ساعة ، والعشاء صليناها ، وجئنا بعد أسبوع ، وأسبوع آخر ، ثم جاء الأجل ، وأصبحنا كلنا تحت أطباق الثرى ، وترحم الله علينا ، وصاحبُنا الذي يطير مع هذه الموجات يرانا كما نحن .
لو أنه سبق الضوء رجع الزمن ، نظرياً ممكن أن نشاهد موقعة بدر كما هي ، لو سرنا في الفضاء الخارجي بأسرع من الضوء حتى حصلنا على موجات هذه المعركة لشاهدنا كما هي ، ولو سبقنا الضوء تراجع الزمن ، لو قصرنا عن الضوء تراخى الزمن ، ساعة في الفضاء الخارجي يقابلها في الأرض ألف عام .
قضية الزمن قضية خطيرة جداً ، والزمن يمضي بسرعة ، وكل واحد من إخوانا الكرام له عمر ، فاسأله كيف مضى هذا العمر ؟ يقول لك : كلمح البصر ، والإنسان عندما ينام يقف الزمن ، يستيقظ قبل المغرب ، فيظن نفسه أنه استيقظ بعد الفجر ، هذه تحدث كثيراً ، نام نوماً عميقاً عند العصر ، فاستيقظ قبل المغرب ، فقال : هل أدرِك صلاة الصبح ، أيُّ صبحٍ هذا ؟ المغرب لم يؤذَّن له بعد ، عندما نام تعطل الزمن ، لذلك عندما سئل أهل الكهف : كم لبثتم ؟ حَسبَ القوانين المألوفة لبِثْنا يوماً أو بعض يوم ، ومضى على نومهم ثلاثمائة سنين ، وازدادوا تسعًا .
ربنا عز وجل يوقف الزمن ، فهذا الذي مات توقف الزمن أيضاً بالنسبة له ، الذي بعثه الله بعد موته ضُرِب ببعض البقرة ، فسئل : مَن قتله ؟ إنها قصة البقرة التي وقعت في عهد بني إسرائيل مع سيدنا موسى ، عندما قتل ابن عمه ، وقال الله سبحانه : (اضربوه ببعضها كذلك يحي الله الموتى) ، فيمكن أن يتوقف الزمن ، وأنت في الزمن ، ويمكن أن يتوقف الزمن بعد مضي الزمن ، أو ممكن أن تدخل على الزمن بعد انقضاء الزمن .
أيها الإخوة : الذي نريده أن يعلم الإنسان علم اليقين :
ما مضى فات ، والمؤمَّل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
لا أحد من إخواننا الحاضرين ، وأنا معكم يملك ساعة بعد هذه الساعة .
مرة دعيت إلى مولد في جامع الحنابلة ، بعد انتهاء درس الأحد فيما أذكر توجهت إلى ذلك المسجد ، أحد أعضاء الجمعية التي سعت لإنشاء هذا الحفل استقبلني عند مدخل المسجد بترحاب شديد ، ودخلت إلى المسجد ، وجلست في مكاني أستمع لبعض الكلمات ، ولم ألبث أنْ سمعتُ اضطراباً وضجيجًا في المسجد فما فهمت شيئاً ، ثم أُعلِمت أن هذا الذي استقبلني وقع ميتاً ، ذهبنا إلى مستشفى أمية لنسعف الرجل ، لكنه مضى إلى مولاه ، وكان قد صافحني قبل دقيقتين ، كذلك كنتُ مرة في تعزية فجلس إلى جانبي أحد علماء دمشق الأفاضل ، رحمه الله ، حدثته وحدثني ، وقام وانصرف ، خرج من بيت التعزية رجلٌ عنده سيارة لا يعرفه إطلاقاً ، ولا يعرف اسمه ، فدعاه ليوصله إلى البيت ، فاستجاب له شاكراً ، أوصله إلى البيت ، وبيته في الطابق الرابع ، وصعد الطوابق الأربعة ، وفتح الباب ، ودخل إلى بيته ، ثم دخل إلى غرفته ، وضع عمامته على الطاولة ، وخلع جبته ، واستلقى على السرير ، وسلم روحه ، لو أراد أن يستأجر سيارة لتوصله لمات في السيارة ، أما هذا الأخ الذي ألهمه الله أن يأخذه من باب بيت التعزية إلى باب بيته بأسرع ما يمكن ، وأجله بعد خروجه من التعزية بعشر دقائق ، كانت هذه كافية لكي ينتقل إلى بيته .
مَن منا يملك ساعة في المستقبل ، وذات مرة جلست مع مدير ثانوية ، وبث لي همومه ، وقال : أنا مُجمِع على السفر إلى الجزائر كي أعلِّم هناك ، وكان هناك في وزارة التربية نظام الإعارة ، مدرس له أن يذهب إلى أيِّ بلد عربي ، ويأخذ ضعف راتبه ، فقال لي : سأذهب إلى هناك ، وأقيم خمس سنوات ، ولن أتي إلى الشام في هذه السنوات الخمس ، وسوف أقوم بزيارات في صيف هذه السنوات الخمس ، وعدَّ لي البلاد الأوربية التي سيزورها ، بلدًا بلداً ، أول سنة إسبانيا ، وفي الثانية بريطانيا ، وفي الثالثة فرنسا ، وفي الرابعة إيطاليا ، وسأتجوّل في هذه البلاد ، وأذهب إلى المتاحف ، وإلى الريف ، وإلى ... ثم أعود بعد خمس سنوات ،و أطلب الإحالةَ على التقاعد ، وأشتري محلاً لبيع التحف ، ويكون أولادي قد كبروا ، ويقيمون في هذا المحل ، وأجعله منتدى لي ، ولأصدقائي ، ولا أذكر التفاصيل الأخرى ، جلست عنده ساعة ، حدثني فيها عن عشرون سنة قادمة ، ثم فوجئت مساءً أنه مات في اليوم نفسه ، والله في اليوم نفسه وجدت نعيَه على الجدران وقد انصرفتُ إلى البيت بعد لقائي به ، وعدت إلى مركز المدينة لعمل ، وفي طريق العودة إلى البيت رأيت نعيَه على الجدران في اليوم نفسِه ، وهذا يحدث كثيراً .
الموت يأتي فجأةً ، والقبر صندوق العمل ، لحكمة بالغة أيها الإخوة ليس للموت قاعدة ، إنسان معلَّل ثلاثين سنة وهو مُقعَد في البيت ، ولا أحدَ من ذويه إلا ويتمنى موته ، ولا يموت ، وإنسان في ريعان الشباب يباغته أجلُه ، كلنا تحت هذا القانون ، ولا يُستثنَى واحد ، أليس الأفضل أن تعدَّ لساعة المغادرة عدتها ، ما مضى فات ، الماضي لا تبحث فيه إطلاقاً ، فإنّ البحث فيه غباء ، ما مضى فات ، والمؤمل غيب لا تملكه ، لا نملك إلا هذه الساعة ، فيجب أن تتوب في هذه الساعة ، بل في هذه اللحظة ، تريد أن تطلب العلم فاطلب العلم الآن ، تريد أن تنفق انفق الآن ، لا تقل غداً ، قال النبي الكريم لرجل : ويحك أوليس الدهر كله غداً .
إخواننا الكرام : قضية الموت والزمن قضية كبيرة ، كما قال سيدنا عمر ابن عبد العزيز : ((الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما)) ، أيها الإخوة لو يعلم الإنسان ماذا ينتظره بعد الموت ، فواللهِ أكاد أقول لكم : لن ينام أبداً ، هناك مَن يعمل في التجارة ، زرت معملاً كلموني فقال لي بعضُ مَن فيه : إنّ صاحبه اشترى بيتًا ثمنه مائة وستون مليونًا ، يعمل مِن الساعة الخامسة حتى الساعة الحادية عشر مساءً ، فهذا الجهد ينبغي أن يكون للآخرة ، انظر إلى النبي الله صلي عليه ، لقد جاء إلى الدنيا ، وخرج فماذا فعل ؟ لقد أقسم الله سبحانه وتعالى بعمره ، فقال تعالى :
( سورة الحجر )
وكذلك اسأل نفسك : ماذا فعلت للمسلمين ؟ ماذا قدمت ، أقدَّمتَ علمًا ، أقدّمتَ مالاً ، أقدمتَ خبرةً ، أقدَّمتَ مساعدة ، أربَّيتَ أولادك ، ماذا فعلت ؟ هذه هي الغنيمة ، لقد ذهبت إلى بلاد الغرب ، إلى أمريكا ، فكان أكثرُ شيء لفت نظري أن الإنسان هناك يعيش بلا هدف ، يأكل ، ويشرب ، قال تعالى :
( سورة محمد )
يعيش الإنسان بلا هدف فهذه واللهِ الطامَّة الكبرى ، مرة التقيت مع مندوب شركة ، أردت أن أحدثه عن الله قليلاً ، فما إن بدأت حتى قال : هذه المعلومات لا تعنيني ، ولا أهتم لها ، ولا ألقي لها بالاً إطلاقاً ، أنا يعنيني امرأة جميلة ، وبيت واسع ، وسيارة حديثة ، إنه تائهٌ ضائعٌ ، قال تعالى :
(سورة الملْك)
يا أيها الإخوة : درسنا اليوم دارَ حول مفهوم الزمن ، ومفهوم الموت ، وكلاهما مفهومان خطيران ، ملخص الملخص قول الإمام الحسن البصري : ((الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه)) .
فوالله ما رأيت في كل حياتي موقفًا فيه عبرة كما أقف أمام قبر ، ويدفن الميت أمامي ، وأنا أعرفه تماماً ، قد يكون صديقًا ، وقد يكون قريبًا ، أعرفه تماماً ، أعرف حياته ، وطريقة حياته ، وصلاته ، ودينه ، أراه ملفوفًا بقماش يُحمَل ، ويُدفن تحت الأرض ، والشيء المؤلم أنْ توضع دقائق الحجرة على فتحة القبر ، ويأتي الحفار ، ويجرف التراب ، وقد تسقط عليه كمية كبيرة جداً من التراب ، وكان قبل أيام على سرير معطَّر ، وشرشف جديد معطر ومغسول ، حِرام في الشتاء وثير ، في الصيف مِسبل لطيف ، أما بعد الموت فيهال عليه التراب ، وانتهى الأمر ، والذي أرجوه أن نُدخِل هذه الساعة في حساباتنا اليومية ، فاحذرْ أن تأكل قرشًا حرامًا ، أو أن تكذب ، واحذرْ أن تعتدي ولا على نملة ، لأن كله مسطَّر ومسجل عليك ، قال تعالى :
( سورة آل عمران )
أما هذا الغافل فإنه يعيش كالبهيمة لا يعرف لماذا خلق ؟ ولماذا جيء به إلى الدنيا ؟ وماذا بعد الموت ؟ قال تعالى :
( سورة إبراهيم )
( سورة البقرة )
هذا الكلام خطير ، يجب أن تراجع كل حساباتك ، تراجع شؤون بيتك وظروف عملك ، أي حرفة رائجة تقبل الناس عليها حلالاً كانت أو حراماً ، أي جهاز ممتع مسلٍّ ألهو به ، يا ترى ما الذي يعطلني عن صلواتي ، ويفسد علاقتي مع أهلي ، ويفسد تربية أولادي ، واحذرْ أنْ تقول : أنا واحدٌ مِن الناس .
إخواننا الكرام : عندما تُدخل الموت في حساباتك اليومية تنعكس الموازين ، سأوضح لكم هذا ، إنسان تعب في العمل الصالح يقال له : لماذا لا ترتاح ، لو فرضنا أني ألغيت هذا الدرس ، وتوقفتُ عن هذه الخدمة ، وطويت هذا الكتاب ، وسأخلد للراحة في البيت ، هل الراحة هي الهدف ؟ لا ، فإنّ الهدف هو العمل ، مثل بسيط وطريف :
إذا ملأ رجل الحمام ماءً ـ البانيو ـ ماءً فاترًا ، والماء الفاتر مهدئ جداً ، وجلس ساعة ، وساعتين ، وثلاثًا ، وتمطَّى كل يوم عشر ساعات في الماء الفاتر ، هل يصبح طبيبًا ، أو يصبح تاجرًا كبيرًا ، هذا مستحيل ، الراحة ليس لها مردود ، وليس لها مستقبل ، أما التعب فله مستقبل ، إنسان يتعب يحقق نجاحًا ، يقطف ثماره ، لما دخل الموتُ في حساباتي رأيتُ أن العمل الصالح هو الفوز ، هو الذكاء ، هو الربح ، هو الفلاح ، والراحة استهلاك رخيصٌ للوقت .
مرة شاهدت بيتًا جميلا في مكان ، فقلت لصديقي : لو كانت هذه البيت لنا ، وأقمنا فيها كلَّ أيامنا فسنأتي يوم القيامة مفلسين ، مكان جميل ، وطعام شهيٌّ ، ومناظر خلاّبة ، تأكل ، وتنام ، وتسهر ، وتتأمل ، وتنام ... يأتي عليك يوم القيامة وأنت مفلس ، فالأولى أنْ نجلس في مكان حار ، وفيه كلُّ المنغِّصات ، ولكن فيه عمل صالح ، إذًا عندما تدخل الموت والآخرة في الحسابات تجد التعب راحة ، والبذل هو الفلاح ، وليس الأخذ ، أكثر الناس يحسب نفسه ذكياً إذا أخذ ، بالعكس فإنّ الإنسان المفلح هو الذي يعطي ، أما إذا أخذ تجده بعد حينٍ ترك هذا ، ومات ، لم أر عبارة أدق لمَا أعلم مِن إنسانٍ من أهل الدنيا ، ومن كبار الأغنياء مات ، فيقال : ترك كل شيء ، بينما رجل له أعمال صالحة ، ومات أخذ كل شيء ، جملة (كل شيء) في الحالتين موجودة ، ولكن أحدهما أخذ (كل شيء) ، والآخر ترك (كل شيء) ، عندما تدخل الموت والآخرة في حساباتك فأنت بالتعبير العامي "تقبضها" وليس في ذلك كلام ، تنعكس موازينك ، وترى الفلاح في القبض ، وليس في الأخذ ، ترى الذكاء في التعب ، والسهر ، وبذل الجهد ، أعرف أشخاصًا يعملون عشرين ساعة لله ، وهو أسعد الناس ، يقال له :عليك بالراحة قليلا ، فيقول : أنا بالراحة أتعب ، فإنْ رأيتُ نفسي عاطلاً عن أيِّ عملٍ ، فارغًا ، فعندئذٍ ليس للحياة مذاق ، أمامك عمل ، وإنفاق المال ، والتعليم ، وطلب علم ، وحلّ المشكلات ، وتيسير أمرٍ لإنسان ، بهذا ترقى عند الله ، اخلدْ إلى الراحة تشعر بتفاهة الحياة ، لا تستحق أن تعش هذه الحياة ، تراهم مثل البهائم ، يأكل أحدُهم ، ويشرب ، وينام ، ويرفس النعمة ، ويقول : هكذا الناس ؛ أكلٌ ، وشراب ، ونوم ، وكلام مؤذٍ مثل الرصاص .
كِبر واستعلاء ، متى يشعر بقيمة الحياة ؟ حينما يأتيه ملك الموت ، قال تعالى :
( سورة الفجر )
( سورة الزمر )
( سورة الفرقان )
الحقيقة أنّ المشكلة الآن في الملهيات الكثيرة حولك ، تنسيك الزمن كله ، أجدادنا لم يكن عندهم ملهيات ، أحدُنا الآن يمكن أن يجلس أمام التلفاز حتى الساعة الخامسة صباحاً ، مِن محطة إلى محطة أخرى ، أو تلعب طاولة طول الليل ، أو تتابع الأخبار ، أو المسلسلات ، أو تسهر في المقاهي ، يمكن أن تبذل وقتك كله في مُتَع متتابعة ، ولا تشعر بالوقت أبداً ، فجأةً أزمةٌ في الصحة شديدة ، فيُؤخّذ إلى المستشفى ، عناية مشددة ، ثم يُنشَر نعيُه ، هذا واقع الناس كلهم ، فنحن نضرع إلى الله أنْ يلهمنا الصواب ، حينما تؤمن بالآخرة ، وحينما تدخل الموت في حساباتك اليومية ، ترى التعب راحة ، وترى العطاءَ أخذًا ، والعمل المتواصل هو الذكاء ، وكل إنسان وجد الراحة هي الهدف ، فهو الغبيُّ الذي لم يفقه من الدنيا شيئاً ، معظم الناس تراه وليس له عمل صالح يحتاج إلى فيلا ومسبح ، ودخل كبير ، يتمتع ويسافر ، ولا يريد شيئًا آخر ، أهذا الشيء يدوم ؟ وإذا دام فإلى متى ؟ ألم يعلم أنّ كل حال يزول ، وسبحان الحيِّ الذي لا يزول ولا يحول .
أقام إنسان في بلد نفطي ثلاثين سنة ، جمع عدة آلاف من الملايين ، مات فجأةً في فندق ، وهو في نزهة ، وعمره خمس وخمسون سنة ، الأربعة آلاف مليون أين هي ؟ وماذا انتفع منها إن لم يكن تصدّق ؟ فلربما تكون عليه وبالاً يوم القيامة ، ونخشى أن يقال له يوم القيامة :
(سورة القيامة)
عَنْ عَائِشَةَ ((أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَقِيَ مِنْهَا قَالَتْ مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا قَالَ بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا)) .
(الترمذي وأحمد)
أنا الذي ألحُّ عليه هو أنك حينما تؤمن بالآخرة إيمانًا حقيقيًّا ، كيف يكون الطالب المجتهد مترقِّبًا قدومَ أيام الفحص ، فيدرس له مِن أول السنة ، يقرأ ، ويلخص حتى الساعة الواحدة ليلاً كل يوم ، لأنه مؤمن أن الفحصَ قريبٌ وآتٍ ، وعليه أنْ يجمع علامات ، وهذه العلامات سوف تحدد مستقبله ، طبيبًا ، أو مهندسًا ...، فعندما يؤمن الإنسان بالامتحان إيمانًا حقيقيًّا ، ويستعد له من قبل يقطف ثماره ، فإذا آمن أحدُنا أن الموتَ قادمٌ لا محالة ، وسوف أحاسب على الكلمة ، وعلى النظرة ، وعلى الليرة كيف كسبتها ، وكيف أنفقتها ، فسأدخل جنةً فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر فلن يألُوَ جهدًا ، ولن يتلكَّأ لحظةً .
مرة دعانا أخ إلى مكان جميل في اللاذقية ، دخلنا إلى فيلا في بستان ، فيه كل أنواع الفواكه ، في حضن جبل أخضر مطلة على البحر ، حتى وجدنا في البستان الموز ، أنواع الفواكه كلها تملأ جنات هذا البستان ، فسألت فقالوا : والده مات بجلطة ، وترك هذا البيت ، ومضى إلى الله ، هذا مصير كل إنسان يترك ويمضي ، نظِّم أمورك ، فهنا الإقامة مؤقتةُ ، والمثوى الأخير معروف ، وسيشيع كلُّ واحدٍ منا إلى مثواه الأخير ، القضية ليست قضية تشاؤم ، وليس قضية سوداوية ، لا ، فالموت مصير كل إنسان ، وكل مخلوق له بداية ، وله نهاية ، وهو بضعة أيام ، وعند الولادة تكثر الخيارات ، أما عند الموت فليس مِن خيارات إلا خيارين ؛ إما جنة ، وإما نار ، وحينما تؤمن بالله إيمانًا حقيقيًّا تنعكس المقاييس ، ويصبح التعب هو الراحة ، والبذل هو الأخذ ، والإنفاق هو السحب ، والله سبحانه وتعالى يوفقنا لما يحب ويرضى .