إذا كان مفهوم التقدم العلمي والتقني في مجتمع من المجتمعات يتحدد بمخزون المعرفة المتاحة لهذا المجتمع في وقت معين, وبقدرة ذلك المجتمع على توظيف مخزونه العلمي وقدراته التقنية في عملية تنموية شاملة تحقق العمارة المادية للحياة بمستوى العصر, مع القدرة على تحسين وتطوير هذا المستوى, والنهوض المستمر بالمعرفة العلمية, وبالتقنيات المتاحة, فان ذلك يتسع في الاسلام ليشمل النمو الانساني بجميع أبعاده حتى يصل الى مقام التكريم الذي وصفه الحق – تبارك وتعالى – بقوله: "ولقد كرمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً" [الاسراء: 70].
وإذا كان مفهوم التقدم العلمي والتقني اليوم قد حدد بحدود ضيقة لا تتسع إلا لعدد من المفاهيم المادية الصرفة التي يقتصر مردودها على التقدم الاقتصادي والعمراني والسياسي والعسكري البحت, وما يرتبط بذلك كله من نشاط عمليات التصنيع, والزراعة وزيادة الانتاج, والسيطرة على الارض والاستفادة بثرواتها, ومحاولة التحكم في بيئاتها, فانه في الاسلام يشمل ذلك كله بالاضافة الى التركيز على جميع أبعاد النمو بالانسان افراداً وأسراً ومجتمعات نمواً متكاملاً لمختلف المواهب والملكات ابتداءً بالقدرة على توفير الاحتياجات المادية "التي تمكنه من القيام بواجب الاستخلاف في الارض, وعمارة الحياة على سطحها", وانتهاءً بتطلعاته الروحية والفكرية والاخلاقية والسلوكية والعقيدية "التي تربطه بخالقه وتعينه على تحقيق ذاته عبداً لذلك الخالق العظيم وعلى فهم حقيقة رسالة الانسان في هذه الحياة".
فالمسلم لا يرى في البحث العلمي مجرد جري وراء الكشف عن أسرار الكون, وقوانين الله فيه لتطبيق تلك الكشوف والقوانين في استثمار ثروات الارض واحكام السيطرة عليها فقط بل يرى فيه – فوق ذلك – طريق المستكيف الى الله تعالى, ووسيلته للتعرف على شيء من صفات خالقه العظيم من خلال التعرف على بديع صنعه في الانفس والافاق.
وعلى سبيل المثال – لا الحصر – فان المسلم لا يرى في الكون عدواً له من الواجب أن يقهره ويقف في وجهه ويتحداه كما تنادي بذلك كل الفلسفات الغربية الموضوعة, وانما يرى فيه خلقاً سخره له الله ينسجم معه بالطاعة كما ينسجم بتيفهم السنن الالهية التي تحكمه, ويتوافق مع ظروفه بالالتزام بالحق. كما يتوافق بتفهم القوانين التي تحكم تلك الظروف, ويرضى بكل مجريات الامور فيه بعد استنفاد طاقاته, وأقصى جهده, لا رضا المقهور المجبور, ولكن رضاء المستسلم لله تعالى القابل بقضائه وقدره وهو موقن يقينا كاملا ان امور الكون وما فيه كلها بيد الخالق العظيم الذي وصف ذاته العلية بقوله العزيز: "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين". [الانعام: 59]
ومن هنا فلا يجوز للمسلم استخدام تعبيرات مثل "قهر الطبيعة" و"غزو الفضاء" و"ناطحات السحاب" التي توحي بشيء من العداء بين الانسان وبيئته والاصل في ذلك وهو التوافق والانسجام لا العداء والتحدي.
وعلى ذلك فالبحث العلمي في الاسلام ليس مجرد وسيلة لاكتساب العيش, أو تحقيق المجد الشخصي والشهرة الذاتية, ولا مجرد أسلوب من أساليب الغلبة والاستعلاء في الارض, والتجبر على المستضعفين من سكانها, إنما هو سبيل من سبل الحق تبارك وتعالى, ووسيلة تحقيق الانسان لرسالته في الحياة عبداً لله, مستخلفاً في الارض, مطالباً بعبادة الله كما أمر, وبالقيام بواجبات الاستخلاف فيها على أحسن وجه ممكن. ومن ذلك حسن القيام بعمارة الارض وإقامة شرع الله وعدله فيها, ومعاونة المستضعفين من الخلق على العيش الكريم قدر الاستطاعة في غير استعلاء ولا منة, ودون ضرر ولا ضرار. والبحث العلمي في الاسلام اذا تم في هذا الاطار أصبح ضرباً من ضروب العبادة, يتعرف به العبد على خالقه من خلال تعرفه على بديع صنع الله, وهو فرض كفاية تأثم الامة كلها باهماله وتركه اذا أهملته.