إن من المفاهيم العقيدية التي اتفق المسلمون جميعاً على ورودها في القرآن الكريم والسنة المطهرة هو مفهوم التقية، كما يتبين لنا ذلك من قوله تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) وقوله: (إلا مَن أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان) وقوله: (يكتم إيمانه).
ومن سيرة الرسول العملية، موقفه من عمار بن ياسر كما سيتبين لنا ذلك، ومع هذا الوضوح والبيان، فإن هذا المصطلح العقيدي، قد أُسيء فهمه، وحاول بعض المغرضين والمسَخَّرين لتفريق الصف الاسلامي أن يثير الشبهات ويحاول أن يصوره نفاقاً فكرياً، وازدواجية غامضة قد أولدها الفكر المتبنى في مدرسة أهل البيت (ع) عندما لجأ أتباع هذه المدرسة إلى التقية في مراحل الإرهاب والاضطهاد السياسي المرير.
ولإيضاح هذا المفهوم وبيان مجالات العمل به سنضعه في دائرة الضوء؛ لتبديد صورة الغموض والشبهة العالقة به.
ـ التقية في اللغة:
(الوقاية: حفظ الشيء مما يؤذيه ويضره، يقال وقيتُ الشيء أقيه وقاية ووقاء ... ).
(ووقى الشيء وقياً ووقاية وواقية: صانه عن الأذى وحماهُ ... والتقية الخشية والخوف).
والتقية ـ عند بعض الفرق الاسلامية ـ : (إخفاء الحق ومصانعة الناس في غير دولتهم تحرزاً من التلف).
(تقاة) أصله وقاة، فابدلت الواو المضمونة تاء استثقالاً لها، لأنهم يفرون منها إلى الهمزة تارة، وإلى التاء تارة أخرى ...
ووزن تقاة فُعَلَة، مثل تُؤَدة، وتخمة ونكأة وهي مصدر اتقى تقاة، وتقية، وتقوى، واتقاء.
وهكذا يتضح لنا معنى التقية في اللغة: وهو حفظ الشيء ووقايته من الضرر.
ـ التقية في الاصطلاح:
إن مصطلح التقية، هو مصطلح اسلامي قد نطق به الوحي لفظاً ومعنى، مقترناً بحادثة مُفسرة. قال تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومَن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) آل عمران/ 28.
عند تفسير الشيخ الطوسي لهذه الآية قال: (روى الحسن أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله (ص) فقال لأحدهما: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أفتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، ثم دعا بالآخر فقال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، فقال له: أفتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم ـ قالها ثلاثاً. كل ذلك تقية ـ فتقوّلَ ذلك، فضرب عنقه فبلغ ذلك فقال: أما هذا المقتول فمضى على صدقه وتقيته، وأخذ بفضله فهنيئاً له، وأما الآخر فقبل رخصة الله، فلا تبعة عليه).
ثم علّق الشيخ الطوسي على هذه الرواية قائلاً: (فعلى هذا، التقية رخصة، والإفصاح بالحق فضيلة. وظاهر أخبارنا يدل على أنها واجبة، وخلافها خطأ).
أما القرطبي فقد فسّر آية التقية بقوله: (إلا أن تتقوا منهم تقاة. قال معاذ بن جبل ومجاهد: كانت التقية في جِدّة الاسلام قبل قوة المسلمين؛ فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام أن يتقوا من عدوهم. قال ابن عباس: هو أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا يُقتل ولا يأتي مأثَماً. وقال الحسن: التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة، ولا تقية في القتل. وقرأ جابر بن زيد ومجاهد والضحاك: (إلا أن تتقوا منهم تقية) وقيل: إن المؤمن إذا كان قائماً بين الكفار فله أن يداريهم باللسان إذا كان خائفاً على نفسه وقلبه مطمئن بالإيمان. والتقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم. ومَن أكره على الكفر فالصحيح أن له أن يتصلب ولا يجيب إلى التلفظ بكلمة الكفر؛ بل يجوز له ذلك على ما يأتي بيانه في النحل). حيث فسر قوله تعالى: (إلا مَن أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان) النحل/ 106، بقوله: (هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر في قول أهل التفسير؛ لأنه قارب بعض ما ندبوه إليه. قال ابن عباس: أخذه المشركون وأخذوا أباه وأمه سمية وصُهَيبا وبلالاً وخَبّاباً وسالماً فعذبوهم، ورُبطت سمية بين بعيرين ووُجيءَ قُبُلها بحربة، وقيل لها إنك أسلمت من أجل الرجال؛ فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين في الاسلام. وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مُكرَهاً، فشكا ذلك إلى رسول الله (ص)، فقال له رسول الله (ص): (كيف تجد قلبك)؟ قال: مطمئن بالإيمان. فقال رسول الله (ص): (فإن عادوا فَعُد).
وروى منصور بن المُعتَمِر عن مجاهد قال: أول شهيدة في الاسلام أم عمار، قتلها أبو جهل، وأول شهيد من الرجال مِهجع مولى عمر.
وروى منصور أيضاً عن مجاهد قال: أول مَن أظهر الإسلام سبعة: رسول الله (ص)، وأبو بكر، وبلال، وخَبّاب، وصهيب، وعمار، وسمية أم عمار. فأما رسول الله (ص) فمنعه أبو طالب، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأخذوا الآخرين فألبسوهم أدراع الحديد، ثم صهروهم في الشمس حتى بلغ منهم الجهد كل مبلغ من حر الحديد والشمس، فلما كان من العشيّ أتاهم أبو جهل ومعه حربة، فجعل يسبهم ويوبخهم، وأتى سمية فجعل يسبها ويَرفُث، ثم طعن فرجها حتى خرجت الحربة من فمها فقتلها؛ رضي الله عنها. قال: وقال الآخرون ما سُئلوا؛ إلا بلالاً فإنه هانت عليه نفسه في الله، فجعلوا يعذبونه ويقولون له: ارجع عن دينك، وهو يقول: أحدٌ أحد؛ حتى ملّوه، ثم كتفوه وجعلوا في عنقه حبلاً من ليف، ودفعوه إلى صبيانهم يلعبون به بين أخشَبَي مكة حتى ملّوه وتركوه، قال: فقال عمار: كلنا تكلم بالذي قالوا ـ لولا أن الله تدارَكنا ـ غير بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله، فهان على قومه حتى ملوه وتركوه. والصحيح أن أبا بكر اشترى بلالاً فأعتقه.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أن ناساً من أهل مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض أصحاب محمد (ص) بالمدينة: أن هاجروا إلينا؛ فإنا لا نراكم منا حتى تهاجروا إلينا، فخرجوا يريدون المدينة حتى أدركتهم قريش بالطريق، ففتنوهم فكفروا مكرهين، ففيهم نزلت هذه الآية. ذكر الروايتين عن مجاهد إسماعيل بن إسحاق.
وروى الترمذي عن عائشة قالت: قال رسول الله (ص): (ما خُيِّر عمار بين أمرين إلا اختار أرشدهما) هذا حديث حسن غريب. وروي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (ص): (إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة علي وعمار وسلمان بن ربيعة). قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن صالح.
الثالثة: لما سمح الله (عزوجل) بالكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب عليه حكم؛ وبه جاء الأثر المشهور عن النبي (ص): (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) الحديث. والخبر وإن لم يصح سنده فإن معناه باتفاق من العلماء؛ قاله القاضي أبو بكر بن العربي. وذكر أبو محمد عبدالحق أن إسناده صحيح، قال: وقد ذكره أبو بكر الأصيلي في الفوائد وابن المنذر في كتاب الإقناع.
الرابعة: أجمع أهل العلم على أن مَن أكرِه على الكفر حتى خَشِيَ على نفسه القتل، أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تَبِين منه زوجته ولا يحكم عليه بحكم الكفر.
وهكذا يتضح لنا أن القرآن الكريم قد تحدث عن التقية وأوضح أنها للمكرَه، ولمن تلجئه الضرورة للدفاع عن النفس والمال والعرض، بعد أن نهى عن موالاة الكفار وأعداء الاسلام وأخبر بقطع العلاقة بين الله سبحانه وبين مَن يوالي أعداءه.
وعندما عُرّض عمار بن ياسر وبعض الصحابة إلى التعذيب والأذى اضطر إلى الاستجابة إلى أعداء الله والنطق بما أرادوا من الثناء على آلهتهم وذكر الرسول بسوء، فجاء وذكر ما حدث له للرسول (ص) فأقره الرسول (ص) على فعله، وقال له: فإن عادوا فعد.
وقد قرأنا ما ذكره المفسرون في سبب نزول الآية الكريمة: (إلا مَن أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان) وعرفنا إقرار الرسول للتقية جرياً على إجازة القرآن الكريم لهذا الموقف الاضطراري.
وكما تحدث الرسول (ص) عن التقية، وأقرّها للمكرَه والمضطر بشكل واضح وصريح، نجد عذراً ضمنياً باستعمال التقية للمكرَه والمضطر في حديث الرفع المشهور بين المسلمين جميعاً، فقد روي عن الرسول (ص) قوله: (رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما أُكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة).
وكما يثبت هذا الحديث الشريف قاعدة عامة برفع المسؤولية عن المضطر والمكرَه نجد كذلك في قول الرسول (ص): (لا ضرر ولا ضرار)، حكماً في رفع الضرر عن النفس والمال والعرض، إذا كان الواقع يمكن رفعه بإظهار التوافق مع الوضع السياسي أو الفكري وأمثالهما، الذي يشكل خطراً حقيقياً على النفس والمال والعرض ما زال القلب مطمئناً بالحق، وثابتاً على الإيمان والإخلاص لإرادة الله سبحانه.
وعلى أساس كتاب الله وسنة نبيه الكريم (ص) التزم أئمة أهل البيت (ع) وفقهاؤهم بمبدأ التقية في المجال السياسي والفكري عندما أصابهم الظلم والاضطهاد والتقتيل والتعذيب والتشريد الذي أخبرهم به رسول الله (ص) بقوله: (إنا أهلُ بيتٍ اختار الله لنا الآخرة على الدنيا. وإن أهل بيتي سيلقونَ بعدي بلاءً وتشريداً وتطريداً ... ) دفاعاً عن النفس، وحماية لذلك الكيان الفكري والسياسي الأصيل، الذي كان يقوده أئمة أهل البيت (ع) كقوة معارضة للحكمين الأموي والعباسي، اللذين عُرفا بالعداء والتنكيل بأئمة أهل البيت وأتباعهم وفكرهم المعبر عن الوعي الأصيل، والفهم العميق، والموقف الرافض لتسلط الحاكم الظالم، وقد أوضح علماء أهل البيت مجال انطباق التقية وتوظيفها.
روي عن الإمام الباقر (ع): (التقية في كل ضرورة، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به).
وروي عنه قوله (ع): (إنما جُعِلَت التقية ليُحقَنَ بها الدم، فإذا بلغ الدم فليس تقية).
وروي عنه قوله (ع): (التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم، فقد أحله الله له).
وهكذا يوضح الإمام الباقر (ع) أن التقية هي موقف دفاعي في حالة الضرورة والاضطرار وحفظ النفس.
فالتقية كما اتضح لنا ليست من اجتهاد الفكر الشيعي، إنما هي نص اسلامي نطق به القرآن، وأقرّه الرسول (ص) ومارسه الصحابة وأوضحه المفسرون من مختلف الاتجاهات والآراء كما قرأنا آنفاً؛ لرفع الضرر ومعالجة الضرورة، ولحقن الدماء، كما أوضح الإمام محمد الباقر (ع) ذلك.
وتأسيساً على هذا المبدأ أفتى فقهاء الإمامية بوجوب التقية، فللمسلم أن يُبطِنَ الحق من عقيدة وموقف سياسي وقناعة تشريعية وعبادية ويظهر خلافها دفاعاً عن النفس والمال والعرض، كما أجاز له القرآن والسنة ذلك.
قال الشيخ الطوسي: (والتقية ـ عندنا ـ واجبة عند الخوف على النفس، وقد روي رخصة في جواز الإفصاح بالحق عندها).
وعرَّف الشيخ المفيد التقية بقوله: (التقية: كتمان الحق، وستر الاعتقاد فيه، ومكاتمة المخالفين، وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدين أو الدنيا، وفرض ذلك إذا علم بالضرورة، أو قوي في الظن، فمتى لم يعلم ضرراً بإظهار الحق، ولا قوي في الظن ذلك، لم يجب فرض التقية، وقد أمر الصادقون (ع) جماعة من أشياعهم بالكف والإمساك عن إظهار الحق والمباطنة والستر له عن أعداء الدين والمظاهرة لهم بما يزيل الريب عنهم في خلافهم وكان ذلك هو الأصلح لهم، وأمروا طائفة أخرى من شيعتهم بمكالمة الخصوم ومظاهرتهم ودعائهم إلى الحق لعلمهم بأنه لا ضرر عليهم في ذلك، والتقية تجب بحسب ما ذكرناه ويسقط فرضها في مواضع أخرى على ما قدمناه)
منقول