تعاطى المؤلف في مقدمة الكتاب لغة الوعي الاسترجاعي بحق ما يسميها الاستعادات المنهجية التي برزت عند الغرب في فترة زمنية قياسية هي فترة ما بعد الحرب الباردة، والتي لا يراها أكثر من ممكنات غابرة ورجاءات خلاصية كان قد تم ابتكارها سابقاً في لحظات مماثلة أو في ظروف أخرى، فتم استحضارها وإعادة إنتاجها وتطوير خطابها وآليات نشرها وتوزيعها بما يتلاءم والظروف، ظروف الأزمة! المستجدة.
كل ذلك في محاولة منه لمحاكمة تلك التوليدات أو الاستفاقات الانطروبولوجية، التي يحصرها في أطروحات خلاصية أربعة هي: نهاية التاريخ لفوكوياما، وصدام الحضارات لهانتغتون، ومشروع العولمة الكونية.
والطريق الثالث الذي يبدو أنه محاولة تلفيقية بين اليسار واليمين في وقت اختلطت، في الغرب، وتشابكت الايديولوجيات الاشتراكية والرأسمالية حتى خفّت الفواصل بينها وضاعت ملامحها، أو معظمها بالأقل، فصار اليميني في السلطة اشتراكياً واليساري رأسمالياً.
وعلى ساس من هذا جاء هذا الكتاب محاولة لتكثيف عقد من البحث والمتابعة في موضوع الصراع الحضاري والعلاقات الصراعية أو التقاطعية أو التفاعلية بين المشروعين الحضاريين: المادي والإلهي، وذلك من خلال النظر إليهما بالمنهج الحضاري، الذي يتراءى للمؤلف ان استعادته في قراءة العمران البشري وظواهره أهم الاستعادات الأربع المتقدمة.
الصراع الحضاري بين فوكوياما وهانتنغتون:
في بيئة مشحونة بالأفكار والمعلومات وتحولات تفوّق عامل الزمن على عامل المكان وتقدم العلم على الجغرافيا، يتأكد الحديث عن العلاقات المفترضة بين الحضارات في هذا العالم، التي لا زالت تحتفظ لنفسها بمقومات البقاء والاستعداد للنمو والنهوض.
وتبدو وجاهة مثل هذا الحديث بعدما دأب مفكرو الغرب على استعادة طرح سؤال كبير مركب من أسئلة تفصيلية عقب كل تحول استراتيجي يبدو فيه العالم متجهاً نحو مرحلة جديدة. السؤال هو: ما هي طبيعة الصراع بين الأمم والشعوب؟ وهو ولاد كل تحول شمولي.
في هذا المناخ القلق ولشدة الغموض المحيط باحتمالات تطور العلاقات الدولية المقبلة وبالتالي بصيرورة العالم المضطرب، وقد خرج الاسلام من القمقم شاهراً مشروعه في كل اتجاه وبلغات ممانعة متعددة، واستفاقت قوميات جريحة فبدت وكأنها تنطق بخطاب خُيّل إلى العالم أنه قد دفن تحت ركام الخصوصيات والفوارق التي اجتاحتها حمى الدعوات الكوسموبوليتية والعولمية.. في هذا المناخ يُسترجع ذلك السؤال الكبير بتداعياته المعقدة.
في هذا الفصل يحاول المؤلف التعرض لمقولتين شكلتا العصب الأساس في مكونات الظاهرة الأمريكية، التي شكّلت أحدث تطوير لمفاهيم التطور التأريخي والفكر السياسي وفلسفة التأريخ في الغرب بشتى تداعياتها، أريد لهما ـ هاتين المقولتين ـ أن تكونا جواباً عن السؤال أعلاه، معتقداً ـ المؤلف ـ بأن كل الإجابات التي قدمها العقل الغربي عن السؤال حتى الآن لما تؤد إلى فهم مقنع بحقيقة الصراع بين الأمم والشعوب، هل هو ديني أم أثني أم ايديولوجي أم اقتصادي أم سياسي أم خليط مركب من هذا وذاك؟ الأمر الذي يدع مجالاً عريضاً ـ والكلام له ـ للشك في قدرة العقل الغربي على تقديم فهم حقيقي لحاضر العالم وعلى استشراف مستقبله، وبالتالي ثبوت عجزه عن فهم الانسان والتأريخ والتطور التأريخي وشروط قيام عالم متوازن ومتكامل وآمن.
هاتان المقولتان اللتان تحاولان تقديم رؤية في تفسير حركة التحولات التي تجتاح العالم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وصياغة منظور في العلاقة بين الحضارات ـ وفق التصور الأمريكي ـ تنتميان إلى نوع المقولات التي مزجت بين السياسة والثقافة في تكوين بنيتها الداخلية وفي نظرتها للعالم الخارجي. وهما مقولتا: (نهاية التأريخ والانسان الاخير) وهي محاولة المفكر السياسي الأمريكي (فوكوياما)، الذاهبة إلى أن الديمراطية الليبرالية.. تشكل فعلاً منتهى التطور الايديولوجي للانسانية، والشكل النهائي لأي حكم انساني، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي مما يعني نهاية التأريخ بتحقق الانتصار الشامل للنموذج الحضاري الغربي كخيار وحيد لمستقبل الانسانية، إذ سوف لا يبقى في نهاية التأريخ أي منافس حقيقي للديمقراطية الليبرالية.. جازماً بأن الدين ـ بدوره ـ لن ينشئ بذاته مجتمعات حرة، وبأن المسلمين في المدى المنظور لن يتمكوا من نمافسة الديمقراطية الليبرالية في عقر دارها في مجال الأفكار.
إن مقولة فوكوياما، بالمحصلة، وهي تقرأ الواقع الجيوسياسي في العالم اليوم، وهو واقع متهافت وقلق لا يضمن التحليل العاقل استمراره وديمومته، إنما تعيد تظهير مشهد العلاقات الدولية بمعادلاتها وارتجاجاتها الحالية، باعتباره قدراً نهائياً يرتسم فيه العالم المابعد تأريخي بدوله الديمقراطية القائمة (الشمال) ودولة الممكنة في المستقبل، واحة سلام مستقر. بينما يرزح العالم التأريخي (دول الجنوب) في فوضى التدافع والقتال والصراع وتحتشد بين العالمين ـ وبالمنطق التيموسي الفوكويامي نفسه ـ قابليات انفجار الحروب وعواملها. فكيف للتاريخ أن ينتهي وللعالم أن يستقر ويهدأ، وسيوف الصراع وأسبابه مسلطة فوق رؤوس البشر، في ظل غلبة معادلات الظلم والهيمنة وايديولوجيا البقاء للأقوى، وتشريع إخضاع الآخر بكل الوسائل المتاحة؟
ثم ان المتمعن في العلاقة الجدلية التي يرسمها فوكوياما بين السياسة ومكونات الهوية الثقافية الأخرى يجد أن السياسي عنده يكاد يبتلع كل شيء، ويحتويه بما في ذلك الفكر والدين والانتماء القومي وخصوصيات الهوية الثقافية، إلى درجة باتت فيها الثقافة شرطاً ممكناً لقيام الديمقراطية، لا شرطاً حقيقياً وضرورياً.
هكذا وبهذه الاسقاطات المتجزئة التي انتزعها فوكوياما ـ يقول سمير سليمان ـ من رماد جمهورية أفلاطون.. ومن مفهوم الدولة والتحقق التأريخي الهيغليين.. اللذين أحرق هيكلهما بثقاب انتقائيته، يقرر فوكوياما ان الديمقراطية.. هي ابتداع نخبوي انقلابي من الدرجة الأولى، حققه دهاقنة السياسة، وليس للشعوب فيه إلا دور الرعايا الذين يصادقون على قرار النخبة، أو بمعنى أدق ـ يُذعنون له. وحتى ثقافات الشعوب (المصنعة ديمقراطياً) يختزنها فوكوياما إلى (ميولات غامضة) تُشطب من عل أو تمحى بحبر سياسي.
(ان مقولة فوكوياما، بأبعادها المركبة المنوه بها هي مقولة إلغائية استكبارية حضارياً وسياسياً، تصدق بلا ريب عن رؤية فلسفية حضارية هي في قلب المشروع الحضاري المادي المعنون اليوم بالغرب).
المقولة الأخرى، التي استقطبت اشتغالات على نطاق علمي واسع في ميادين الثقافة والسياسة والاقتصاد والإعلام وهكذا في ميادين الفلسفة وعلم الأديان والتاريخ. الاشتغالات التي أكدت الطابع الجدلي لهذه المقولة ولما لها من حساسية وتوجس، هي مقولة (صدام الحضارات) وهي محاولة المفكر السياسي الأمريكي (صامويل هانتغتون) القائلة بـ: (ان المصدر الأساسي للنزاعات في العالم الجديد لن يكون مصدراً آيديولوجياً أو اقتصادياً في المحل الأول. فالانقسامات الكبرى بين البشر ستكون ثقافية.. وستظل الدول/ الأمم هي أقوى اللاعبين في الشؤون الدولية، لكن النزاعات الأساسية في السياسات العالمية ستحدث بين أمم ومجموعات لها حضارات مختلفة، وسيسيطر الصدام بين الحضارات على السياسات الدولية، ذلك أن الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل).
وبعد أن يحدد هانتغتون مفهومه لمصطلح (الحضارة) ينتقل إلى رسم الشكل العام لخارطة الحدود الحضارية في العالم المعاصر، حيث يرى أن (خطوط الفصل) بين الحضارات ستكون نقاطاًحساسة وستكون عاملاً لظهور الصراعات المستقبلية، وتُعد البديل لحدود الايديولوجية السياسية الخاصة بفترة الحرب الباردة، ويسعى الكاتب في دراسته إلى إفهام رجال السياسة في أميركا والغرب بأن مصدر الصراع المستقبلي سيكون بين الحضارة الغربية من جهة واتحاد المجتمعات الكونفوشيوسية في شرق آسيا والعالم الاسلامي من جهة أخرى، ويعتقد ان الصراعات الحضارية هي آخر مرحلة من مراحل تكامل الصراع في العالم.
ثم في ضوء هذه التضاريس والحدود التي احتفرها هانتغتون يحاول المؤلف أن يخرج بملاحظتين منهجيتين، قوام الأولى: خطورة اعتبار الأديان ـ وفق ما ينتهي إليه هانتغتون ـ مجرد مشاريع نزاعات وحروب.. ناهيك أن تأويله مؤد حتماً إلى إثارة الأديان وتحريضها بعضاً ضد بعض.
أما قوام الأخرى فهو عدم الدقة في المطابقة بين مفهوم الحضارة الذي اعتمده هانتغتون وبين الحدود التي اختطها على أساسه. وهما في الحقيقة جزء من مجموع مؤاخذات نقدية أوردت على هذه المقولة، إذ يمكن الاشارة هنا إلى ملاحظات (برجنسكي) الذي يقبل من حيث المبدأ استبدال الصراع الغربي ـ الشيوعي، بالصراع الغربي ـ الاسلامي، إلا أنه ينكر على هانتغتون عدم اهتمامه بتفتت الفكر الغربي وتآكله داخلياً.
كذلك من المؤاخذات المهمة التي وجهت لنظرية (صدام الحضارات) هي ما كتبه الدكتور فؤاد عجمي، الذي يستغرب من هانتغتون تجاهله دور الدول في تحقيق مصالحها القومية، مع أن (الدولة) لا تزال أقوى العوامل على مسرح القضايا العالمية، فهو ينظر أولاً لسيطرة الدول على الحضارات وثانياً لضعف العامل الحضاري.
فوكوياما وهانتغتون وجهان لعملة واحدة:
بعد القراءة التفكيكية والتركيبية لمقولتي فوكوياما وهانتغتون يخلص المؤلف إلى القول بأنهما لم تفلحا في انتاج نظرية متماسكة ومقنعة تميط الحجب عن تلك الحقيقة الإشكالية، المتمثلة في السؤال المنهجي الشمولي المتعلق بحقيقة الصراع بين الدول والجماعات الانسانية، كونهما جاءتا محكومتين برد فعل (مشروع) على تحول استراتيجي (مفاجئ). تمثل بانهيار المنظومة الماركسية، وانتهاء مرحلة الحرب الباردة، فكان طبيعياً أن يسارع العقل الغربي في محاولة ملء الفراغ الايديولوجي الذي طرأ على أثر التهافت (الظاهري) للأدبيات السجالية التي كانت تزخر بها حمى الوطيس بين الجبارين تحت ضغط هذا الواقع ا لمستجد جرى استيلاد المحاولتين اللتين لم تشكلا سوى مراكمة لتأريخ التعثر الفكري في الغرب.
الاستعادة الصحيحة للمنهج الحضاري الاسلامي في قراءة التأريخ:
يرى المؤلف امكانية القول أن المنهج الحضاري في تفسير التأريخ المعاد اكتشافه في آخر الاضافات الفكرية الأمريكية وخصوصاً على يد صامويل هانتغتون، وبالرغم من الأخطاء الفظة والاستخلاصات الناشزة التي ارتمى في بحرانها، هو المنهج الأصلح بالمنظور الاسلامي، وبمعاييره الدقيقة أيضاً.
يبقى أن نشير إلى اعتقاده: بأن العودة العملاقة للاسلام إلى الواجهة السياسية والمعرفية الدولية لم تكن لتتبوأ ذلك الموقع الانبعاثي المتقدم لولا ثورة الإمام الخميني وشعبه بالمشروع الحضاري للاسلام وانطلاقاً منه.
- الإمام الخميني والصراع الحضاري:
قد لا نكون مبالغين إن قلنا ان مصطلح ـ مفهوم (الصراع) هو أحد أبرز المصطلحات ـ المفاهيم السجالية التي طفت على سطح النقاش المحتدم بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك مفاصل الخصم التأريخي لليبرالية الديمقراطية.
على هذا الأساس يحاول أن يقدم المؤلف رؤية الاسلام ـ بالإمام الخميني ـ عن طبيعة الصراع (بين الأمم والشعوب أو بعبارة بين الدول)، حيث يحدده وفق هذه الرؤية بأنه: لا يعني إعلان الحروب واستخدام العنف بالضرورة، بل هو الجهاد العمودي الارتقائي الذي يرتفع بالانسان والجماعة إلى مرتبة تدرجية أعلى هي في ذاتها سمو أكثر اقتراباً من الهدف النهائي المطلق.. انه الصراع/ الجهاد التراكمي باتجاه الكمال.
ثم انه طبقاً لما بناه سابقاً من انحصار المفهوم الحضاري باثنتين من الحضارات ـ المادية والإلهية ـ ينوّه إلى استخدام الإمام الخميني مصطلح الطريق، من مجموع مصطلحات متقاربة حتى حدود الترادف، للاشارة إلى كل من هاتين الحضارتين المؤسستين قرآنياً على قيمتين مطلقتي الدلالة أي: كل حق وكل باطل، وقرن كلاً منهما بوجهة قرآنية مطلقة أيضاً، عندما سمى الأولى: (الطريق إلى الله) وسمى الثانية (طريق الطاغوت).
السنن في الصراع الحضاري بالمعايير الاسلامية:
يتطرق مؤلف الكتاب في هذا الفصل الذي اتخذ من (المناشيت) أعلاه عنواناً له، إلى أهم المميزات وأبرز المواصفات التي يتسم بها المشروع الحضاري الاسلامي والتي منها:
أزلية الصراع: المتحققة وفق القراءة التي ترى في الصراع الحضاري سنة ـ قانون من السنن ـ القوانين التأريخية ـ الاجتماعية التي لا تستطيع صيغ الحياة الخرودج على حتميتها أو ديمومتها، حيث يعتبرها الشهيد محمد باقر الصدر (ره) ذات طابع موضوعي وعلمي، لأن أهم ما يميز القانون العلمي ـ كما يقول ـ عن بقية المعادلات والفروض هو الاطراد والتتابع وعدم التخلف.
وبهذا المعنى، فان الصراع الحضاري أزلي يتحلى بكل شروط الديمومة، من هنا جاء قول الإمام الخميني ـ بالاسلام ـ : (ان صراعح ضارة الحق/ طريق الحق ضد النزوع الحضاري المادي، هو صراع أزلي مستمر منذ آدم إلى نهاية الحياة).
في التغير والتحول التأريخيين:
ان الصراع الحضاري يهدي المعايير السننية الإلهية/ الثوابت.. محكوم بنمط آخر من المعايير في تصور الحضارة التوحيدية لمسار التحولات والتغيرات التأريخية التي لطالما تضاربت في تفسيرها التجريبية الفكرية المادية، فالذي يُنشئ تلك التحولات والتغيرات في الأصل، وعلىم ستوى نظام الحياة والوجود، هو المشيئة الإلهية، غير ان هذه المشيئة لا تتدخل في تثبيت فعل التغيير والتحول إلا بعدما يغير الناس/ الجماعة/ اقوم ما بأنفسهم. قال تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
ثم إن هذا التغيير من الداخل ليس خصيصة منهجية اسلامية في الصراع الحضاري وحسب، بل هو أيضاً فعل مقاومة لا تنقطع لسلبيات المشروع الحضاري المادي، وهو بذل ممانعة دائمة داخل النفس، وفي الجماعة المواجهة محاولات الاختراق التي لابد من أن تتعرض لها الذات المؤمنة بعنوان الأهواء، وصنوف الاغراءات الفردية والجمعية المؤدية إلى تهافت الأمة وسقوطها، ومعها يتهاوى المشروع الحضاري الذي اختارت الانتماء إليه من خلال تداعي مصاديقه.
الصراع الاحيائي:
يعقد المؤلف هذا الفصل لتفكيك رموز مصطلحي الصراع والحوار، على خلفية الغموض والالتباس الذي يكتنفهما، وفق التصور الاسلامي، منطلقاً من قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم..) في تحديد معنى الصراع الذي يرى في هذا الاحياء/ الدعوة للانتصار على السكونية والموت المعنويين.. دعوة مشروعة للانضاء في الصراع الحضاري الأزلي إن لم يكن هو فعل الصراع بعينه.
ثم يعقب على ضرورة توطيد التعاون والتخفيف من حدة حوافز الاختلاف، وتذليل عقبات التفاهم إلى الحد الأقصى الممكن وذلك عبر المشروع الذي ارتسم بعنوان الحوار بين الحضارات الذي يبصره باعتباره القطب الأول في ثنائية جدلية يشكل مشروع الهوية الكونية الواحدة الناهدة إلى وأد الهويات المحلية الموقعية أو ما عُرف بالعولمة، القطب الآخر لها.
وفي طريق إرساء دعائم القطب الول يرى شرطية احداث تحول مبدئي في العلاقات الدولية بنسقها التدميري الرائج والقائم على ما يسمى (لعبة المصالح) ـ أو ادارة الأزمة في كوكب الفقراء حسب أحد المفكرين الاسلاميين ـ والبراغماتية المادية العمياء، وذلك باتجاه بناء علاقات راسخة بين الدول بوجهة جديدة ومضمون جديد يقومان على المساواة بين الدول في الحق والسيادة وفي الواجبات وفي تنمية علاقات الصداقة والتعاون بما يضمن الأمن والسلم الدوليين، وعلى أساس الاحترام المتبادل واللجوء الى الطرق السلمية لفض النزاعات وضمان الحق بالتنافس البنّاء والتمايز النقدي الحر.
ثم إنه يعتقد ان الإمام الخميني (رض) مثّل التجسيد العيني للنموذج غير الطوباوي للعلاقات الدولية بمعاييرها الاسلامية، عندما قرر للسياسة الخارجية للجمهورية الاسلامية الايرانية أن ترفض المساومة على المبادئ الاسلامية التي قامت عليها تلك السياسة.
رافضاً ـ المؤلف ـ الدعوى التي ترى في نظرة الإمام إلى العلاقات الدولية والصراع الدولي، محكومة بالمنهج الفلسفي المثالي المنطلق من مقدمات عقيدية أو ميتافيزيقية ثابتة، والمنطلق مما يجب أن يكون لا مما هو كائن، وذلك قبالة (المنهج الواقعي المعاصر) علىط ريقة هانس مورنمانثو.. إذا كان ذلك يحلو لهم، فإن تطبيق الإمام عملياً لتصوره الاسلامي للعلاقات الدولية ومبادئ حمايته فعل الصراع الدولي، خير دليل على أن الإمام قد زاوج بين ما ينبغي له أن يكون وبين ما هو كائن، مقدماً من خلال ذلك أفضل مثال على اقتران النظرية بالممارسة في المشروع الحضاري الاسلامي والشريعة التي يعتد بها.