من منظور تأويلي، يبدو تاريخ البشرية برمته مجرد تحد حضاري مستمر، يستغرق التحدي الحضاري بين الحضارات جلّه، والتحدي داخل الحضارات نفسها ما تبقى منه، فالتدافع الحضاري بأشكاله المتنوعة، لم يكن سوى تحديات حضارية، بين مجتمعات بشرية، أو حضارات متجاورة، أو متنافسة على مكاسب جغرافية أو تجارية، أو في سبيل عقائد أو ايديولوجيات أو غير ذلك. مما يتم وصفه بصراع الحضارات أو صدامها أو غير ذلك..
ولا شك أن الاعتبارات الجغرافية والتاريخية والاقتصادية، لعبت دوراً كبيراً في تشكيل خارطة التحديات الحضارية، ولكن الشكل الثقافي كان الأكثر تأثيراً وشدة، وهذا عائد إلى طبيعة الانسان، بوصفه كائناً ثقافياً في المقام الأول.
ولكن سؤال التحدي الحضاري إسلامياً، لم يثر بشكل مباشر، إذ لم يكن لدى المسلمين خوف حقيقي على هويتهم ودينهم، إنما ظهرت بوادره بُعيد حملة نابليون على مصر، حيث شكلت هذه الحملة صفعة شديدة، إذ حملت معها قفزة معرفية أذهلت المسلمين ونبهتهم إلى غفلتهم التاريخية الكبرى، فظهرت الأسئلة الكبيرة.. ولكن الإجابات كانت وبقيت ضئيلة!
ومن سؤال إلى سؤال، كان سؤال التحدي الحضاري يتنقل في الثنايا العميقة للأسئلة الحائرة، سؤال التقدم، سؤال الحرية والكفاح ضد الاستعمار، سؤال التحرر من هيمنة القوى الكبرى، سؤال الهوية، وغير ذلك.. الأسئلة التي بلغت أوجهاً اجتماعياً في مرحلة الكفاح الوطني، والتي بلغت أوجهاً فكرياً وثقافياً بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تسابقت الايديولوجيات السائدة، في فرض تصورها ورؤيتها لسؤال الهوية، الذي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالتحديات الحضارية.
وسؤال التحدي الحضاري، بقي حاضراً على مستويات مختلفة حتى يومنا هذا، لأنه يتداخل مع جميع أوجه الحياة، حيث المواجهة يومية ومستمرة ومعقدة، وحيث مساحة الاحتكاك أكثر اتساعاً وعمقاً، بسبب التكنولوجيا والترسانة الإعلامية الهائلة الممنهجة، لذلك قلما خلا جهد فكري من هذا المسألة سواء أكان طرحها يرمي إلى التواصل مع الحضارة المعاصرة، أو إغلاق الباب دونها.
والمثقفون في العالم الاسلامي، ما زالوا ينظرون إلى المسألة بستاتيكية وجمود في المضمون، بشكل يثير الأسف، كما يبدو لي، بل إن مناقشة مسألة التحديات الحضارية، في الفكر الاسلامي المعاصر، تفصح عن الكثير من العلل المنهجية والسكونية فيه.
وأود هنا أن أناقش دراسة بعينها، تبدو لي أنموذجاً واضحاً للتناول التقليدي إسلامياً لهذه المسألة، وهو بحث الدكتور رشيد أبو ثور الكاتب المغربي، والمنشور تحت عنوان (العالم الاسلامي والتحديات الحضارية) في مجلة الكلمة، العدد 22. وأود أن أوضح أن نقدي لمقالته، هو إلى حد كبير نقد ذاتي، لأني أكاد أجد صدىً لنفسي في ثنايا كلماته.
يبدو أن الذهنية الاسلامية عامة، لا تزال تنتظر نقطة تحول، تماثل تلك التي جعلت قبائل متناحرة على رمال شبه الجزيرة العربية، تنطلق لبناء حضارة مزدهرة، جعلت من المسلمين سادة للحضارة على مدى قرون طويلة، ويبدو لي أن الذهنية الاسلامية لا تزال في العمق منها، تفسر الأمر من زاوية واحدة، وهو الإعجاز لا السننية. ون كان البعض ربطه بالصلاح الاجتماعي والقيم العلوية، فإنه تغافل عن الأمور التي رافقت هذا الامتداد والصعود.
وإن كنا بداية نعترض على طريقة المعالجة (التي يشترك بها الدكتور رشيد مع معظم الكتاب والمفكرين المسلمين)، حيث يتم دوماً تقديم الحلول على أنها الوصفة السحرية، فإن ما يطرحه الكاتب، ليدل على عمق إحساسه بالأزمة، وتوجسه مما خلفته، ومما ستخلفه مستقبلاً، وعلى أكثر من صعيد.
ويبدأ الكاتب بأهم رمز من رموز العالم في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي منظمة الأمم المتحدة. لا شك بأنها لم تقم على أسس عادلة، ولا شك بأن تأسيسها فاسد وستبقى فاسدة، ولن تستطيع حل مشكلة أو فض نزاع دون اللجوء إلى قوة غاشمة أو تحيز لمصلحة الأقوى، وخاصة أن معظم ميزانيتها مما يجود به هذا الأقوى، فهي منذ تشكيلها رهن لإرادة غاشمة ومتسلطة في برامجها ودستورها، وقد ظل تاريخها مرتبطاً بمصالح الغرب تحديداً، ومع نهاية عقد الثمانينات وانهيار الاتحاد السوفيتي، تحولت إلى هيئة تابعة لوزارة الخارجية الأميركية.
وما تفعله هذه المنظمة وقرينها في السوء: صندوق النقد الدولي ليس ظلماً مقنناً، إنما هو تسلط صريح ووقح، أكثر تطوراً ونفاذاً واستغلالاً، واستخدام كلمة (ظلم) ناهيك عن كلمة (مقنن) فيه تجزئ وتخفيف غير مقصودين، فالأمر أبعد من الظلم والجور، وهناك ما يسمى بالتطهير العرقي والإبعاد والتهجير والإلغاء الثقافي وتفتيت العالم جغرافياً وتاريخياً، والحكم على البشرية بأن تسير في طريق غاية منتهاها ما انتهى إليه الغرب. إن الأمر يتعدى حدود الهيمنة إلى الاستئصال وفق الغايات المالتوسية، وأطاريح ماكس نوردوا في طرد سكان الجنوب إلى عمق الصحراء، ليقضوا نحبهم هناك تاركين أماكنهم للعرق الأفضل (الأوروبي). إنه عالم براجماتي إلى أبعد حد.. وإن كانت ثارات التاريخ ونعرات الثقافة لا تزال تفعل فعلها هنا وهناك في صيغ تفضيلية، ولكن المقوم الرئيسي هو المصالح، وضمن رؤية آنية ومستقبلية في وقت واحد. بل إن التاريخ والثقافة يتم الاهتمام بهما لحماية المصالح وازدهارها. والمصالح في طرحها الحديث تقتضي التأويل، ليخدمها المتخلفون عن الركب الحضاري وهم صاغرون. لذلك فإن أبشع الجرائم ترتكب باسم القيم العلوية، وهي مفاهيم مركزية التفافية مؤولة، فالعدل الأميركي مثلاً، لا يجد ضرراً في التغاضي عن أمر هنا، والدفاع عن جريمة هناك، ومعاقبة آخرين هنالك. ولكن الحديث عن قيم علوية، تحكم سلوك المجتمعات البشرية، وخاصة المجتمعات المهيمنة، يبدو حديثاً طوباوياً، فالتاريخ حركة دائبة، والأمم الخامدة تكون خارجه، إذ إنه ديناميكي في الصميم، ولكنه لم يركن إلى القيم العلوية، إلا عندما ارتبطت بمقومات تجعلها في صدارة الاهتمام، بل وربما لم يفلح سوى الإيمان في جعل القيم العلوية في الصدارة، ومع ذلك لا يمكننا نفي الغايات المؤولة.. وعصر الإيمان (ولا نقصد هنا المصطلح اديورانتي) عند أي مجتمع كان مرتبطاً بالانتشار والتوسع.. ولكن إلى أي حد يمكننا اعتبار هذا العصر خاضعاً للقيم العلوية؟
فالحروب الصليبية تمت تحت ستار القيم العلوية، والانكلوساكسونيون ذبحوا الهنود الحمر في مجازر جماعية يندى لذكر فظائعها الجبين، حتى كادوا أن يمحوا عرقهم، وأن يفنوهم عن بكرة أبيهم، كل هذا بدعوى نشر دين المسيح، وبسط رحمته على العالم. وحتى الفتوحات الاسلامية! هل يمكننا التسليم بأنها كانت خاضعة لسنة الرسول (ص) في غزواته. فثمة أخطاء كثيرة ارتكبت باسم القيم العلوية في الاسلام، وفهم المؤرخين المحدثين للقيم العلوية، قد جعلهم يتعاملون مع التاريخ بانتقائية مخلة بأسس البحث التاريخي.
يستفيض الكاتب في ذكر جشع الشركات والبنوك الأجنبية، دون أن يذكر الممارسات المخزية لخطط التنمية العالم ثالثية، مع أن الطرف الأكثر سوءاً بنظري، هو الضحية، لأنه أساساً سائر في تسليم رقبته لفم التمساح، ومع ذلك نكتفي بذكر همجية التمساح.
ويدهشني الكاتب ـ وهو يبدو واسع الاطلاع ومتابعاً ـ عندما يضع الحمل عن كاهلنا وكاهله، ليقرر بأن (الأزمة التي يعاني منها العالم الاسلامي اليوم استبداداً وتخلفاً وفقراً وعجزاً وتبعية ليست إلا نتيجة لهذه العقلية النفعية التي يتعامل بها أقوياء عالم اليوم)، إن هذا التنصل الكامل من المسؤولية، وتعليق كل مشكلات العالم الاسلامي على مشجب المؤامرة، نظرية ناقصة ومتخلفة. بل أصبحت مأزقاً تاريخياً لا يستطيع المثقف المسلم الفكاك منه.
وهذه النظرية إضافة إلى كونها تكرس السلبية في معالجة العيوب والنواقص، فإنها تزرع الإحباط بما توحيه من عدم جدوى محاولة النهوض. لأن المؤامرة تتم على يد أقوياء العالم اليوم، الذين تصعب مواجهتهم، لذلك علينا أن نستسلم لمصيرنا هذا بجبرية يائسة.
ويذكر الكاتب بأن احتلال الغرب للعالم الاسلامي عائد إلى تراجع العالم الاسلامي تاريخياً، لكنه لا يوضح ماهية هذا التراجع التاريخي.. ويخلط الكاتب بين العالم الاسلامي وبلدان الجنوب عامة، وهذا يناقض قصة المؤامرة، فهناك مجتمعات كاثوليكية وارثوذكسية وغيرها تعاني التخلف والفقر والمرض وربما بدرجة تفوق شدة عما هو عليه العالم الاسلامي. قد يكون ثمة تعاطف من قوى نافذة إلى حد ما داخل المجتمعات الغربية مع بعض الشعوب على أساس ديني أو عرقي. ولكن من الواضح إن ما يحكم السياسات الغربية تجاه باقي العالم هو المصالح في المقام الأول، ومواجهة الغرب للاسلام هي عقلية أسس لها الاستشراق. وتتعلق إلى حد بعيد بقدرة الاسلام على مواجهة الأطماع التاريخية والمتجددة للغرب في هذه البقعة الحيوية من العالم.
وإن كنا كمسلمين نؤمن بأن الاسلام رؤية متكاملة للكون والوجود والحياة، فهذا لا يعني بأن فهمنا له يكتسب هذه الخاصية، فالواقع الاسلامي يعاني من التخلف والفقر والهوان والتبعية، مع أن معظم المسلمين ملتزمون بدينهم. وكل القيم العلوية لا تفلح في إنقاذ العالم الاسلامي من علله التاريخية والسلوكية والفكرية. فقد تحولت إلى شعارات وطقوس بدلاً من أن تكون منهجاً تجديدياً للحياة. إن الاسلام غني بتكوينه وراق بذاته، ولكن المسلمون في الحضيض من عالمنا اليوم. وهم ما بين متخبط في دنياه، وآخر مستغرق في آخرته، منتظر لها.. وكأنما خلق للانتظار. لا يمكننا أن نجير التباهي بالاسلام لصالح المسلمين، وهم يعيشون على هامش الحضارة وخارج التاريخ. والواقع الاسلامي تبدو فيه حالة فصام حادة بين تعلق الفرد بدنياه، وبين سعيه من أجل آخرته. وأرجو ألا نستغرق كثيراً في تنبؤات مَن يعتنقون الاسلام حديثاً، فنفسرها تفسيراً اتكالياً، وحقيقة لا أجد أي دلائل واقعية تبشر بالنبوءة التي أشار إليها مراد هوفمان. بل لا يوجد سعي لتحقيق قاعدة سننية لهذه النبوءة. إنما شأننا الاستسلام لأحلام اليقظة، علينا نستيقظ يوماً لنجد البشر يعلنون الشهادتين بصوت واحد. وأنا أنظر إلى الموضوع من هذه الزاوية، ولا أستطيع ن أقتنع بأننا بتنا بحاجة إلى مَن يعتنقون الاسلام خارج دياره، إذ لا يمكن الاعتماد على إسلام يتشكل وينمو تحت أنظار الغرب، بأن يكون منقذاً لمسلمي الأرض. بل إن المسؤولية أصبحت أكبر، لأن هؤلاء أيضاً سيكونون بحاجة إلى ثقل إسلامي، ينقذهم عندما يصبح عددهم مثيراً للجدل والمخاوف. ومن الواضح أن الغرب يرضى عن الاسلام الذي يمارس بين يديه. لأنه في متناوله، ولكن يكون على أقصى درجات الحذر من الاسلام الذي يترسخ خارج سيطرته، وإن كنت لا أحمل الغرب وحده مسؤولية تخلف المسلمين وهوانهم، بل ربما أجد حالة العداء والاستعداء حالة تاريخية، في علاقة حضارتين ملأتا التاريخ بصفحات صدامهما، إلا أنني في الوقت نفسه لا اصدق نابليوناً آخر عندما يبدأ خطابه بالبسملة. إن العالم الغربي عامة يشجع المسلم الوديع الذي اختزل إسلامه في عدد من الصلوات والعبادات اللطيفة، ويتحلى بالهدوء والطيبة والاستسلام لقدره الغربي، أما الاسلام المقاوم، والاسلام الطموح إلى ترسيخ هوية اسلامية واعية، تدرك التاريخ وحركيته، ولا تنظر بيأس إلى نهضة شاملة، فإنه إسلام مدا، لأنه ينافس على مستقبل البشرية. ولهذا لا يمكن التعويل على المسلمين في الغرب، وعلى نمو أتباع الديانة الاسلامية هناك، بل إن المخيف هو أن يرث هؤلاء خلافات المسلمين البينية وصراعاتهم الداخلية، كما يحدث الآن على شبكات المعلوماتية، حيث معارك كلامية ضروس بين اتجاهات أو مذاهب مختلفة، وأنا لا أرمي إلى الاستهانة بدور الجاليات الاسلامية في أوربة، ولكن الواقع والوقائع تدل على المنحى الذي تتخذه أوربة وأميركة بالنسبة إلى العالم الاسلامي، إذ لا يمكن للغرب عامة أن يتقبل فكرة كيان إسلامي مستقل مهما كان صغيراً، قد يدافع عن البوسنيين والكوسوفيين بما يوحي إلى إنسانيته، ولكن لم ولن يسمح لهما بأن تتحولا إلى دول إسلامية النظام والتوجه.
وإشارة الكاتب أبو ثور إلى الكتب المدرسية الغربية، وتحامل واضعيها على المسلمين والاسلام، هام جداً وإن كان مكروراً، ولكن لا أجد له صلة قوية بالموضوع. لا شك أن الغرب يحترز من الاسلام وعالمه. ولكنه لم يأل جهداً في دعم أشكال التطرف في سبيل مصالحه في مواجهة عدو آخر. وعندما يقدم المسلمون مثالاً طيباً على النهوض والتقدم، فإن تلك المعلومات المدرسية المضللة في المناهج المدرسية، ستتحول إلى نقص معرفي في المناهج، وسيكون عليهم حينها استدراكها وتصحيحها. لئلا يسيئوا إلى ناشئتهم في المقام الأول.
والتحذير من القوس الاسلامي ورد كثيراً، وهو تحذير تقليدي من الآفاق المحتملة التي قد يغفل عنها الغرب، فيفاجئه الاسلام بما لم يضعه في حسبانه، إنه نوع من الواقعية في قراءة الواقع بالنسبة للغرب، ولكن هذا التحشيد للآراء للاستدلال على عظمة المؤامرة واستحكامها بمصير الأمة الاسلامية، أمر بات التنبه إلى مخاطره ضرورياً، وخاصة من المثقف الاسلامي الذي يتواصل مع الحركة الثقافية والفكرية عالمياً، وعلى الأخص الطريقة التي يتم بها عرض هذا الموضوع ومعالجته، حيث يبدو الأمر وكأنه لا أمل للخلاص من هذه الحال كما أسلفنا، وأرجو ألا نخلط بين عظمة الدين الاسلامي كمصدر للتشريع وكنظام للحياة، وبين فهمنا لهذا الدين وممارستنا لأحكامه ونظمه الفكرية والسلوكية والنفسية.. إن هذا الخلط من أخطر العلل، لأنه يجعلنا ممن يقدسون عللهم وأخطاءهم باسم الدين.. ولا أدري لم لا نستطيع نحن المسلمون أن ندرك أمراً كان مندوباً على الدوام في تاريخنا، وهو أننا قد نخطئ في فهم الدين، بل لا عصمة لنا من أن نخطئ أحياناً في فهمنا للتشريع السماوي، وهذا موضوع شائك.. ولكنه يتداخل مع ما يطرحه الكاتب من دعوة للعالم إلى تبني النموذج الاسلامي، وهنا حقل ألغام؟! لأن الصيغ الاعتقادية الجاهزة تختلط مع الممارسات التي تمارس في الواقع أو الفهم الذي يتناول هذه القضايا، وأعتقد جازماً وبأسف أن ما ندعوه بالنظام الاسلامي غير مؤهل لقيادة العالم اليوم، ولأسباب كثيرة، ولكن ما النظام الاسلامي؟
أنا لا أعتقد أن النظام الاسلامي هو ما أوحاه الله عزوجل، واضحاً بيناً، إلى رسوله الكريم (ص)، كأحكام وتشريعات.. إنما هو منهج عام لاستخلاص الأحكام والتشريعات وما يتعلق بتنظيم الحياة الدنيا بحيث نأخذ في الحسبان عمارة الأرض والحياة الدنيا والسعي من أجل خاتمة تبشر برضى الله، وهنا مصادر متنوعة منها ما يتفق عليه ومنها ما يختلف حوله بدرجات متفاوتة، ولكن أي تصور للنظام الاسلامي كان وليد تفسير بشري لمقولات سماوية.. والتفسير البشري غير معصوم البتة، وحتى إذا كان صائباً، فإنه مرهون بالظروف التي أفرزته والتي يتغير بمقتضى تغيرها، وربما في وقتنا الحالي قد ابتعد عن الصواب إلى أبعد حد، لأن الجهد المعرفي العقلي قل حتى كاد يفتقد.. بينما الممارسة النقلية طغت حتى كادت أن تلغي ما أسست عليه. هناك مشكلات في دعوة العالم لتبني النموذج الاسلامي للمجتمع، أو تسليم القيادة الحضارية للمسلمين فيما يسميه بعض الداعين إلى هذا الأمر بعقد اجتماعي عالمي جديد، أولها: أن العالم الاسلامي في التصور الاسلامي غير مقنع في أن يقدم للآخرين ما يفيد وهو يعيش حالة مزرية، وثانيها: أن النموذج الاسلامي غير متبلور بالطريقة التي توحي بأنه وصفة جاهزة، وثالثها: من غير المعقول تصور العالم اليوم على أنه بانتظار طريقة لإدارته، لا شك أنه بامكاننا أن نستخلص منهجاً مناسباً لكل ظرف تاريخي أو جغرافي أو معرفي، من النصوص الاسلامية الأساسية والمؤسسة عليها، ولكن هذا الأمر يرتبط بنظم التفكير في الحياة والمقدس والتاريخ والمستقبل، ومما لا شك به أيضاً أن العالم المحيط بالعالم الاسلامي لا يتمنى له النهوض من تحت الركام، ولا شك أن الغرب يخشى من المد الاسلامي، وهو مر منقوش في ذاكرته التاريخية، ومرتبط بصراع طويل على مدى أربعة عشر قرناً ونيف، ولا شك أن مقولة الفصل بين الشرق والغرب ذات أساس استعماري بغيض.. ولكن هذا لا يعني أن نحمل الغرب مسؤولية تخلفنا، ونجلس في منازلنا مرتاحي الضمير، مع الدعاء بأن يشتت الله شملهم كما شتتوا شملنا، ثمة إشكالية كبيرة في الواقع الاسلامي تبدأ بالفرد البسيط، وتنتهي بأعلى النخب ثقافة وعلماً وعقيدة. تقصير واتكالية فظيعة يختلطان مع اليأس والانتظار السلبي، إنها أزمة تاريخية كبرى، إنها أزمة تفكير، ونؤمن مع الكاتب أبو ثور أن ما يعانيه المسلمون اليوم من تخلف وعجز وتبعية واستبداد ومصادرة لحقهم في تقرير مصيرهم هو نتيجة أزمة قيم تنعكس عواقبها على الانسانية جمعاء، ولكن أزمة القيم هي أزمة داخلية في المقام الأول. ويجدر بنا هنا أن نذكر بمفهوم القابلية للاستعمار الذي طرحه مالك بن نبي. لا يمكن للاسلام أن يقدم شيئاً للعالم اليوم، والمسلمون لم يبذلوا جهدهم في التجديد والإحياء الحقيقي للقيم النهضوية.
ونتفق مع الدكتور رشيد في ملاحظته الأولى (ص63)، أما افتراض أنه لا حل لمشكلة الاسلام والمسلمين من دون حل لمشكلة القيم على مستوى الانسانية، فإنه افتراض مرعب واتكالي، وكذلك بخصوص رؤيته بأن الاسلام مؤهل أكثر من أي بديل آخر لإيجاد مخرج للانسانية من المخاطر التي تتهددها، أجد خروجاً من الواقع والمرحلة والعالم المعاصر، وتخيلات عجيبة وغريبة، ومن قال أن العالم اليوم مجمع على البحث عن بديل للوضع الراهن؟! وما هي المخاطر التي يتفق عليها العالم بأنها تتهدد الانسانية؟! قد يشيد عالم أو طبيب بالنظام الأخلاقي في الاسلام عندما يلاحظ أن المسلم محصن بأخلاقه من الإصابة بالإيدز، ويدعو إلى قراءة هذه الميزة، ولكن هذا لا يعني أنه أصبح من الدعاة إلى الاسلام، إنه أمر لا يختلف كثيراً عن إشادة بالتهذيب الذي يبديه الياباني مثلاً.
ويقدم د. رشيد مؤيدات أطروحته، فيبدأ بالوعد الرباني وكأنه يكم الأفواه بمجرد أن يسوق آية قرآنية، اللهم لا اعتراض. لقد وعد الله المؤمنين الذين عملوا الصالحات بأن يستخلفهم في الأرض، وما الصالحات التي نقدمها لنحصل على هذا الاستخلاف؟ إن الآية التي يوردها الكاتب لتدل على عكس ما أراد الإشارة إليه، إنها تؤكد أن مَن يزرعون يحصدون ثمرة عملهم، والمسلمون لم يزرعوا منذ قرون وما زالوا يعيشون أحلام اليقظة والعالم يغذ السير نحو مرحلة أكثر دقة في تاريخ البشر ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ويراهن الكاتب على الزيادة السكانية للمسلمين إضافة إلى الأعداد المتزايدة لمعتنقي الاسلام، وهذا النوع من الرهانات أكل الدهر عليها وشرب، فلا قوة الرأي مناطة بعدد متبنيه، ولا قوة الجيوش مناطة بتعدادها، وبرأيي أن أهم ما أشار إليه الكاتب هو الاهتمام الإيجابي بالاسلام من قبل أعداد متزايدة من الطلبة والمثقفين وغيرهم في العالم الغربي، وأخشى ـ لا سمح الله ـ أن تتحول شبكة الانترنيت التي يستبشر كاتب المقال بها خيراً، إلى حلبة صراع جديدة بين التيارات والمذاهب الاسلامية. ولعل أهم ما في دراسة الدكتور أبو ثور هم القسم الأخير من دراسته، عندما يحاول تقديم البديل الحضاري، وما يطرحه في هذا الإطار أقرب إلى الواقع والعصر، لأنه عملياً لا يقدم بديلاً حضارياً، ولكنه يضع خطة لتهيئة العالم الاسلامي لتجاوز سلبيته، والدخول في بوابة العصر تأثيراً وتأثراً، من الواجب التربوي إلى الواجب التعليمي الذين يمكن دمجهما في نقطة واحدة، ومن ثم الواجب الإعلامي واستغلال شبكة الانترنيت، وواجب التجديد الديني والاجتماعي. وفي هذا القسم الأخير من دراسته يلامس الكاتب موضوع النهضة الاسلامية ومن خلال مقومات ثلاثة أساسية: أولاً إعادة بناء المسلم الحضاري القادر على صنع حضارة لها خصوصية الاسلام وعالمية البريق والتألق، وثانياً إعادة التفكير في أساليب الدعوة إلى الاسلام، وثالثاً التجديد الديني والمعرفي الشامل.
*مجلة الكلمة/العدد24/1999م