هل لنا أن نتساءل عما ستحدثه ثورة المعلومات ورسول العولمة إلى ثقافتنا العربية والإسلامية؟ أم أن الأمر سيكون على خلاف ما نتصور؟ نوعا من الإقصاء المتقن لسائر الثقافات التي تقع على هامش تيار العولمة؟
هذه التحديات على خطورتها، لاتنسينا الإلتفات إلى ما هي عليه الثقافة الإسلامية من أزمة، يتصل بعضها بالكيفية التي تقدم بها هذه الثقافة نفسه في حاضر يكاد يتنكر برمته للأجوبة التي تقدمها هذه الثقافة.. كما يتصل بعضها الآخر بالأزمة التي تقوض البعد التاريخي لهذه الثقافة. والجانبان معا لهما صلة ببعضهما. إذا، نحن أمام ثقافة، لا تزال تكدح في سبيل امتلاكها العنصرين:
1- الديناميكية، ونقصد بها الآليات التي بها تعيد الثقافة خلق نفسها، لتحقق تعاصرها وفعاليتها.
2- التاريخية، من حيث أن الثقافة التي لاتملك تاريخا، لن تحظى بالمستقبل!
فالحديث إذن يتفرع إلى قسمين: الأول، وضعية الثقافة الإسلامية اليوم، تاريخيتها أزماتها الذاتية.
الثاني: وضعها العام في ظل ثورة المعلومات وتحديات العولمة.
الجواب التقليدي عن ماهية الثقافة، على أنها حصيلة التقاليد والإنجازات والتصورات والأفكار.. التي تؤطر معرفيا مجتمعا من المجتمعات. ومعنى ذلك، أن الثقافة هي بالنتيجة الوسط الذي يمد الفكر بخصائص معينة، تحدد نظرته للأشياء وتوجه رؤيته إلى وجهة ما. وعلى هذا الأساس، تختلف الثقافة من وسط لآخر، بتعدد الأوساط والبيئات نزلا إلى الكيانات الصغرى، كالمجمتع أو العشيرة أو الأسرة، وصعدا نحو الكيانات الكبرى، كالقطر، والأمة.. والجامع بين هذه كلها، رؤية الإنسان الثابتة بما هو إنسان، التي هي مناط عالميته، فثقافة العالم، تستند إلى هذه الدائرة، ثقافة الإنسان الذي ينزع في فردانيته نزوعا يشارك فيه بني جنسه. فحينما افكر كإنسان، فأنا أفكر عالميا. غير أن العالمية هي مفهوم كلي، لأننا واقعيا نحن أمام تكوينات اجتماعية أو حضارية، تعيش متفاعلة مع أوساطها، وتتكيف مع أوضاعها، وهي بذلك تخلق عناصر تميزها وخصوصيتها. فالخصوصية هي ضرورة وجود وبقاء، وهي الحقيقة الوحيدة الموجود تعينا. فإذا سلمنا باختلاف التاريخ والجغرافيا، فإننا سنسلم إطرارا باختلاف الثقافة التي هي حصيلة تفاعل الإنسان الواحد مع عوامل مختلفة. وقبل أن نمضي في معالجة الشطر الثاني من الإشكالية، لابد من المكث مليا عند الثقافة الإسلامية هي حصيلة التصورات والرموز والتقاليد والأعراف والإنجازات.. التي تشكل التراث الإسلامي. وهي ما يشكل ويحدد اتجاهات الرأي والنظر عند كافة المسلمين. والحال أن الثقافة الإسلامية تعاني من مشكلتين: الأولى، كونها ثقافة متنوعة ومختلف بحسب اختلاف الجغرافيا الطبيعية والبشرية، وهذا طبيعي مادام الإسلام قدم نفسه عالميا. والثانية تتعلق بكونها ثقافة تحددت وجهزت في فترات تاريخية ما، وهي اليوم عاجزة عن التفاعل بالشكل المطلوب مع واقع الأمة الإسلامية.
فثمة إذن ثقافة إسلامية عربية وأخرى فارسية وثالثة هندية.. كما أن لدينا موروثا ثقافيا مجزأ، يعكس تجزئته على أذهاننا مواقفنا، ومن ثم التجزئة في الصف. نحن أمام هذه الظاهرة التي يتراءى من خلالها انصهار الإسلام مع مختلف البيئات والعصور، إلا أننا لانحظى بثقافة إسلامية غربية أو معاصرة جدا.. لماذا؟! هناك طبعا مسلمون في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.. لكن لماذا لم تترتب على هذا الإنصهار ثقافة إسلامية غربية بالمعنى نفسه الذي رأيناه مع ثقافة إسلامية بخصوصية هندية وفارسية وعربية؟ القضية حسب ما يبدو تتعلق بالأزمة الذاتية والتاريخية لهذه الثقافة. فالإسلام حينما قدم نفسه في فارس أو الهند.. قدمها بصورة القابل لأن يندمج في حياة الناس..
لأنه قدم بصورة مجردة، ومهيأة للتثاقف. لكنه اليوم، يقدم نفسه كإرث يفتقد الإشراق الحضاري.. يزحف مثقلا بخصوصياته المحلية ويعيق نفسه بحركة ارتجاعية تجعل الحاضر والمستقبل رهين مرحلة تاريخية مضت. إن الإسلام اليوم لايقدم كرؤية شاملة، ومجردة عن العالم. فمن حقنا كعرب أن نكون ثقافتنا الإسلامية، كما للفارسي الحق نفسه.. مادام الإسلام يعيش على الأرض ويتفاعل مع الإنسان.. لكن ليس من حقنا أن ننقل للغرب إسلاما عربيا أو فارسيا أو هنديا.. فلنترك له فرصة في أن يتفاعل مع الإسلام، ليخلق من ثقافة الخاصة. إذا، الإسلام واحد، لكن الثقافة الإسلامية أو نسيج التقاليد والأعراف هي مختلفة ومتنوعة، والإسلام يحدثنا عن هذه الحقيقة بوصفها قانونا: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا)!
فمن الناحية الثقافية، لا إشكال في هذا التميز حتى داخل الأمة الواحدة. إن المشكلة الرئيسية هي المشكلة التاريخية، الثقافة الإسلامية اليوم باتت تتنكر إلى العناصر الأساسية في حاضر المسلمين ومستقبلهم. في العهود السابقة كنا نحن من يعمل الغرب العقلانية ونقدم لهم المنطق الأرسطي والفلسفة والرياضيات.. ويوم كان العالم الإسلامي يزهو بقانون ابن سينا- في الطب-، كان الإنسان الأوروبي يموت من أتفه الأمراض والعلل.. لكننا اليوم نتنكر للعقلانية التي افتخرنا بها بالأمس، لا لشيء إلا لأن الغرب اليوم، باسمها مارس أبشع جرائمه التاريخية في حق الشعوب. فالأمر كما ذكر ابن رشد يوما يشبه من رفض الماء حتى مات بالعطش، لأنه رأى أخر شرق من فمات. إن وجها آخر في ثقافتنا يعاني النسيان، أعني الوجه الذي يحمل ثقافة التحرر والعقلانية.. وهو الوجه الذي يتعين علينا إنهاضه قبل الحديث عن عالمية الثقافة الإسلامية.
الغرب اليوم، ماذا يفهم من الإسلام وعن المسلمين؟! إننا لسنا في الموقع الأمثل كي نحدد للغرب الوجه الأنسب للإسلام، من بين أشكال من الإتجاهات المتضاربة.. فمن حقه أن يعتمد في رؤيته لسان حال المسلمين. الغرب اليوم يختزل صورة الإسلام في أشخاص يتزيون بألبسة تدل على حماقتهم.. ويرفضون كل وسائل الرقي والتقدم.. أعداء النمو، لذا هم يتناسخون في أنماط حياتهم.. وهم مع ذلك يخططون لغزو العالم بثقافة غير مستساغة إلا في ذهنية البداوة.. هذا هو الإسلام اليوم الذي يريد أن يقدم الغرب صورته إلى العالم وليس الإسلام الحضاري الذي تمثله مراكز البحوث والدراسات، التي هي غالبا غير مدعومة.. إن الإسلام اليوم كما يقدمه هذا الزحف الكبير، هو ماكنة جهنمية كاسحة، فاقدة للذوق الرفيع مدمرة للحياة.. هي تراكم من العقد النفسية، وركام من الفشل وسلسلة لا تنتهي من المنع والكبت.. إنه بتعبير آخرن إسلام الموت والقبور والتعاسة.. إسلام الجهل والأهواء والغثيان، وليس إسلام الحياة والحرية والعمران.. وطبعا، هذا لا يعني منح المصداقية للعقل الأوروبي في كافة مشاريعه تجاه العرب والمسلمين.. إننا نعاني في الواقع مشكلة قيمين على الشأن الإسلامي.. هل هؤلاء حقا هم من يمثل الفكر الإسلامي؟ وحينما أقول القيمين، لا أعني بالضرورة الجهات الرسمية فحسب، بل أيضا تلك الجحافل المنتشرة من دعاة الجهل والتخلف.. أولئك الذين أوجب عليهم الإسلام ذاته أن يصمتوا إن كانوا لا يحسنون قول الخير.. إذن الإسلام ليس حرفة سهلة ومباحة لبائعي البيض والحفاري القبور.. الإسلام دعوة إلى أرقى الكمالات، وهو من اختصاص العلماء والمفكرين والمتنورين والمثقفين النزيهين.