ـ الثقافة الاسلامية وعصر المعلوماتية:
يعيش العالم المعاصر ثورة هائلة في طرق نقل المعلومات، وبفضل التقنيات الحديثة فإن نقل المعلومات والحصول عليها يتم بسرعة فائقة، كما أنه لم يعد بالإمكان وضع القيود والحواجز أمام حركة الفكر والثقافة، إذ أصبح العالم يتفاعل بعضه مع البعض الآخر، وأصبح انتقال المعلومات من المصدر إلى المستقبل يتم بلحظة البصرّ لقد أضحى انتقال الثقافة والفكر والمعلومات من مكان لآخر لا يحتاج إلى إجازة من أحد، ولا يتوقف على إذن أحد كما لا تستطيع الحواجز والقيود أن تقف أمام تدفق المعلومات إلى كل مَن يريدها ويسعى للحصول عليها. إن ثورة المعلومات التي نعيشها الآن هي نتيجة لمزج صناعتين سريعتي التطور هما: الكمبيوتر الشخصي والاتصالات الرقمية، وقد أصبح الكمبيوتر الشخصي يغزو كل بيت في الدول المتقدمة والغنية مما سهل حركة انتقال الأفكار والمعلومات بما لم يسبق له مثيل على الاطلاق. لقد أصبحت شبكت (الانترنيت) وغيرها من الشبكات الإلكترونية وسيلة سهلة وسريعة ومهمة للحصول على المعلومات، كل المعلومات.
وبفعل هذه التقنية الحديثة يمكن لكل واحد منا أن يستقبل أو يصدر أية أفكار أو معلومات أو مفاهيم من وإلى الآخر.
والغرب اليوم بما يملك من إمكانيات مادية كبيرة، وتقنية عالية المستوى والكفاءة، يصدر إلينا ثقافته وفكره وفلسفته عن الانسان والمجتمع والكون. والثقافة الاسلامية بما تحمله من رسالة عالمية لكل الناس، وفي كل زمان ومكان، وبما تتميز به من خصائص وسمات تجعلها قادرة على التفاعل مع تطورات العصر ومنجزاته، بحاجة للاستفادة من تقنية شبكة الطرق السريعة للمعلومات، وذلك من خلال إقامة مشاريع ثقافية على الشبكات الالكترونية كي نستطيع التخاطب مع الرأي العام العالمي، وتصدير ما لدينا من أفكار وثقافات ومعلومات إلى الآخر، وبذلك نستطيع أن نخدم الثقافة الاسلامية ومستقبلها، أما إذا بقينا نستورد المعلومات بدون ن نصدر ما لدينا من معلومات فسوف نعيش على الهام، وسوف نظل في فناء العالم الخلفي. إن العالم يتغير بسرعة، وعلينا أن نغير أدواتنا ووسائلنا وطرق تصدير ثقافتنا، إن التبليغ اليوم عبر تقنية الشبكات الإلكترونية والفضائيات يمثل أفضل وأسرع الطرق للتأثير في عقول أجيالنا، وكذلك في عقول الآخرين، لا أن نكون مجرد مستهلكين لثقافة الغير ومعلوماته، لأن الاستهلاك الثقافي بدون أن نكون منتجين ثقافياً يجعلنا نذوب في ثقافة الآخر، ونفقد بالتالي الثقة في ثقافتنا ومبادئنا وقيمنا، وهذا ما يهدف إليه (الآخر الغربي) بكل تأكيد.
ـ ثقافتنا والعولمة الثقافية:
ظهر مصطلح (العولمة) في البداية كمفهوم اقتصادي يشير إلى توحيد الأسواق المالية، ورفع كافة الحواجز والقيود التجارية أمام تدفق الأموال والسلع والبضائع من مكان لآخر حول العالم. كما يشير هذا المصطلح إلى التغيرات العميقة في أساليب الإنتاج وسوق العمل وبروز التكتلات الاقتصادية والعملاقة، وتعاظم نفوذ الشركات التجارية المتعددة الجنسية. ولكن (العولمة) كمصطلح ومفهوم وممارسة لم يعد يقتصر على الشق الاقتصادي، بل تعداه إلى كافة الأبعاد كالسياسة والاجتماع والثقافة والبيئة. وما يهمنا هنا هو الحديث عن (العولمة الثقافية) والذي يعني تدفق الثقافات والأفكار من وإلى الآخر، ورفع كافة القيود والحواجز أمام حركة الثقافة والعلم والفكر والايديولوجيا، فلم يعد اليوم في ظل الشبكات الالكترونية المتعددة، وكذلك في ظل انتشار وتعدد القنوات الفضائية وضع الحواجز والقيود أمام الانسياب الثقافي مجدياً، بل أصبح نقل وتدفق الأفكار والمعلومات والرسائل وحتى الصور يتم بسرعة الضوء، وعلى مدار الساعة، متجاوزاً حدود الزمان والمكان! ولا يمكن التعامل مع هذه التغيرات الجديدة إلا بعقلية جديدة، وتفكير جديد، وممارسة جديدة، بحيث تستجيب لمتطلبات العصر وتطوراته، وفرصه وتحدياته، غذ أننا نعيش حالياً منعطفاً جديداً في تاريخ البشرية، بفضل التطور الهائل في علم المعلومات وتقنيات الاتصال، فبعد انتهاء ما عرف بعصر الحداثة، أو مجتمع الصناعة، وما بعد الصناعة نعيش الآن ما يعرف بمجتمع المعلومات، أو المجتمع العالمي، إنه مجتمع بلا حدود، وهذا ما سوف يؤدي إلى انحسار الخصوصيات الثقافية والاجتماعية، وتقلص الحدود السياسية والثقافية والاقتصادية والمعرفية، وهو ما يشكل تحدياً خطيراً لثقافتنا وهويتنا الاسلامية.
وفي ظل هذه التحولات المهمة يجب أن نستفيد من هذه التطورات العلمية بأن نصدر ثقافتنا إلى العالم، لنتخاطب مع الرأي العام العالمي، ونبلغ دعوتنا الاسلامية إلى كل الناس، أما إذا بقينا نستورد الثقافات والأفكار فقط فسوف نصبح مجرد مستهلكين سلبيين لثقافات الغير بدل أن نتفاعل معها، ونؤثر فيها، بل ينبغي أن نحدد رؤيتنا الثقافية تجاه مختلف القضايا المعاصرة.
إن علينا في ظل (العولمة الثقافية) أن نوصل ثقافتنا عبر تقنيات الاتصال إلى كل العالم، فالشبكات الالكترونية، والطرق السريعة للمعلومات التي توفرها تلك الشبكات تتيح لنا كما تتيح لغيرنا الاستفادة منها والتفاعل معها، وتوظيفها في صالحنا وصالح أمتنا وحضارتنا.
ـ من أجل مستقبل ثقافتنا:
لا شك أن للعولمة مخاطرها، فكما أنها تتيح لنا فرصاً كبيرة، كذلك تفرض علينا تحديات خطيرة، مما يزيد من المخاطر والتحديات هو بعد المسافة بين الغرب المتقدم تكنولوجياً وتقنياً، وبين الشرق المتخلف خصوصاً في هذا الميدان، فالأول منتج لها والثاني مجرد مستهلك، وشتان ما بين المرين! ونتيجة لذلك فإن الغرب ـ بما يملك من إمكانيات ضخمة في تقنيات الاتصال ـ قد عمل بقوة على تصدير ثقافته إلى كل العالم، وأصبح بإمكان كل واحد منا استقبال تلك الثقافة، وربما التأثر بها، بل لم يعد بالإمكان منع تلك الثقافة من دخول بيوتنا، فقد تحطمت كل الأسوار، وانهارت كل الحصون، بفعل ثورة المعلومات، وتقنيات الاتصال التي تبشر بعصر جديد وبثقافة جديدة! والغرب ليس لديه ثقافة واحدة موحدة وإن كانت بين دوله قواسم ثقافية مشتركة وكثيرة، فالأمريكيون يريدون أمركة العالم، والفرنسيون يسعون إلى فرنسته، والبريطانيون كذلك؟ وإن كانت الثقافة الأمريكية هي الأكثر انتشاراً ونفوذاً حالياً، وهي تسعى جاهدة إلى هيمنة ثقافتها على العالم، وتهميش الثقافات الأخرى، وبتعبير آخر إنها تعمل من أجل أمركة العالم كله، وربما هذا الشيء عموماً يقلق الكثير من المفكرين الاسلاميين وغيرهم من أصحاب الثقافات الأخرى.
ولكن السؤال الاستراتيجي هو: كيف يجب أن نتعامل مع الواقع الجديد؟ وماذا ينبغي علينا فعله من أجل مستقبل ثقافتنا الاسلامية؟ وكيف نستفيد من هذه التطورات العلمية والتقنية لصالح ثقافتنا؟
للإجابة عن هذه التساؤلات المهمة يمكننا تحديد النقاط التالية:
1 ـ توظيف العولمة لصالح ثقافتنا: من المتفق عليه أن الثقافة الاسلامية أو لنقل الرسالة الاسلامية لم تأت لزمان دون زمان، ولا لمكان دون آخر، ولا لجنس دون غيره، وإنما جاءت لكل الناس، وفي كل مكان، وفي أي زمان، إلى يوم الدين.
ولذلك نجد القرآن الكريم في غير موضع منه يخاطب الناس، كل الناس داعياً إياهم إلى عقيدة التوحيد والتمسك بالقيم والمبادئ، والتحلي بالأخلاقيات الانسانية، والسلوكيات السوية، فنقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) البقرة/ 21 وقوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) لقمان/ 33، وقوله تعالى: (يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) فاطر/ 3، وقوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) الحجرات/ 13، إلى غيرها من الآيات الشريفة، وعليه فالثقافة الاسلامية عالمية، فهي تخاطب كل الأجيال، وكل البشر، وكل الناس، في كل مكان، وفي كل زمان. وتوظيف العولمة لصالح ثقافتنا يتطلب منا الاستفادة من الامكانيات التقنية الجديدة، واستغلال الفرص الكبيرة التي تتيحها ثورة المعلومات والاتصال بهدف تبليغ الثقافة الاسلامية إلى كل العالم.
وقد بدأت بالفعل بعض المراكز العلمية والجامعات في العالم العربي والاسلامي بالاستفادة من الشبكات الالكترونية بما يخدم العلم والثقافة العربية والاسلامية، وكذلك قامت بعض المراكز الثقافية والدينية لايجاد مواقع لها على شبكة الانترنيت لبث الثقافة الاسلامية، والإجابة عن كل التساؤلات الفقهية والدينية والثقافية من خلال الشبكة، وهي بدايات تبشر بالخير، ولكن المشوار طويل، وطويل جداً. ومن المهم تجاوز ردود الأفعال، وحالات القلق السلبي، والخوف من الثقافة الغربية، وهو خوف وقلق مفهوم ومبرر، ولكن الأهم هو صناعة الأفعال، ووضع البدائل، والتفكير الجدي في الاستفادة القصوى من شبكة الطرق السريعة للمعلومات، وهو ما يتطلب مضاعفة الجهود، وتجميع القوى والامكانيات في سبيل تبليغ ونشر الثقافة الاسلامية عبر الشبكات الالكترونية، والقنوات الفضائية المؤثرة في صناعة الرأي العام العالمي.
2 ـ بلورة مشروع ثقافي اسلامي موحد: ونقصد بهذا المشروع الثقافي ما يتناول قضايا العصر، ومستجدات الأحداث، إذ علينا أن نواكب التطورات العلمية والفكرية والثقافية، وذلك بتوضيح الرأي الشرعي تجاه مختلف قضايا الفكر والثقافة المعاصرة وهذا يتطلب عقد الندوات العلمية، والمؤتمرات الثقافية، وزيادة مراكز الأبحاث والدراسات، كي نتمكن من توضيح رأي الاسلام حول مختلف القضايا والمستجدات. وبلورة مشروع ثقافي اسلامي موحد لا يعني اطلاقاً إلغاء التنوع والتعدد الثقافي، وإنما السعي نحو تأسيس رؤية ثقافية كونية ناتجة من التفاعل الإيجابي والحر بين مختلف مراكز الفكر والثقافة، فالتوحد ضمن حقيقة التعدد، والاتفاق ضمن حقيقة التنوع. وثمة مسألة مهمة وهي: إنه لم يعد بالإمكان ـ إن شئنا أن نخدم مستقبل ثقافتنا ـ أن نتجاهل حقيقة العولمة، فقد أصبحت بكل فرصها وتحدياتها إحدى الحقائق المعاصرة، ومن ثم فمن الضروري الاستفادة القصوى من الفرص التي تتيحها العولمة والعمل بجد وتخطيط من أجل مواجهة مخاطر العولمة أو التقليل منها على أقل تقدير.
3 ـ تحديث الخطاب الثقافي الاسلامي: إن العالم يتغير بسرعة، فكل ما حولنا يتغير ويتبدل، إننا نعيش ـ ونحن على أعتاب القرن الحادي والعشرين ـ لحظة تاريخية جديدة، فصل جديد من فصول التاريخ بدأ يطل علينا، هذا الفصل فيه متغيرات كثيرة، وتحولات جوهرية، ومنعطفات مؤثرة في حياة المجتمعات البشرية. ولكي نكون مؤثرين بثقافتنا وفكرنا وليس مجرد متأثرين بالثقافات الأخرى، لابد من أن نطور ونحدث خطابنا الثقافي بما يتلاءم وروح العصر، إذ لا يمكن مخاطبة الناس الآن بنفس خطاب القدامى، أو تقديم معالجات قديمة لشخصيات قد عالجوا مشاكل عصورهم، وتقديمها كحلول لمشاكل عصرنا، كما لا يمكن مخاطبة العالم بنفس الخطابات المحلية، إذ لكل عصر ومكان خصوصياته وسماته وظروفه. ويجب لكي تكون ثقافتنا عالمية ـ بمعنى وصولها إلى كل الناس والتأثير فيهم ـ أن نقدمها بثوب جديد يتناسب وعصرنا، ومستوى الفهم والإدراك عند الأجيال الحاضرة والقادمة، كما يجب أن يتناسب خطابنا مع المستوى العلمي، والرقي المدني الذي حققته البشرية في عالم اليوم، مع الحفاظ طبعاً على المحتوى والمضمون للثقافة الاسلامية. وهذا ما سوف يحقق للأمة الاسلامية مكاسب كبيرة على المستوى العالمي، أما إذا خاطبنا العالم في القرن الجديد (القرن الواحد والعشرين) بنفس خطاب القرن العشرين، وربما بما قبله بقرون، فسوف نخسر كثيراً، ليس على مستوى العالم فقط، وإنما أيضاً حتى على مستوى الأجيال المعاصرة من المسلمين أنفسهم، وهذا مكمن الخطر والخطورة!
وهنا يجب التأكيد على نقطة مهمة وهي: إن الاسلام اليوم بحاجة ماسة إلى دعاة يحسنون عرض أفكاره وقيمه ومثله ومبادئه وأخلاقه، على الشبكات الالكترونية والقنوات الفضائية بأسلوب جذاب وشيق وجميل، كي يقبل الناس، كل الناس، على ثقافة الاسلام وفكره، انطلاقاً من قوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) النحل/ 125.