من الصحيح أن يتحّدث الإنسان عن معالم متميزة للصحوة الإسلامية في بلاد الغرب وأمريكا، فقد استطاع المهاجرون ان يدفعوا بقضيتهم الإسلامية إلى مواقع متقدمة وأن يعرفوا بالاسلام في دائرة واسعة، وقد انضم الى الصف الاسلامي الكثير من أبناء هذه البلدان وتحمسوا لعقيدتهم بدرجة كبيرة، ولقد أصبحت الحالة الإسلامية مألوفة في كثير من هذه المناطق، بعد أن كانت ظاهرة تدعو إلى النفور والاستغراب. ومن الممكن أيضا ان نذكر بعض حالات التعقل لدى البعض من الباحثين والمفكرين الغربيين الذين بدأوا يدرسون الظاهرة الإسلامية بأساليب منصفة على العكس مما كانت عليه حال أوروبا في عصر الاستشراق وهي الحال التي اضطلعت بمهمة النيل من الإسلام والمسلمين وتشويه صورته المشرقة وتوهين مفاهيمه بطريقة فضة. كل تلك المظاهر امور معروفة تحققت بفضل الوعي الاسلامي في بعض اوساط المهاجرين لكن النظرة العلمية تدعو أيضاً إلى رصد المظاهر السلبية التي نشأت لدى البعض بسبب البيئة الجديدة التي انفتح عليها المهاجرون. فالشرائح المسلمة التي دفعتها الظروف إلى مختلف السوح الغربية تواجه ظرفاً جديداً مغايراً لما تحمله من أفكار ومفاهيم وعادات وتقاليد، ويمكن القول ان الثقافة الإسلامية والمتمثلة بكل المظاهر التي أكدتها الشريعة الإسلامية هي غير الثقافة الغربية وتفترق معها من أول الطريق بسبب تباين المنهجين في التفكير، ومن الطبيعي أن يكون لهذا التباين استحقاقه المعين. وقد تكون ضريبة الاستحقاق تلك عالية جدا حين يغيب الموقف الاسلامي ويتلبد الوعي وعندها تبرز ظاهرة الانبهار بالثقافة الغربية بسبب انعدام الرؤية الصحيحة واختلاط المقاييس فتنعكس اعراض الانبهار على المظاهر الفكرية والسلوكية وعندها يصعب تمييز هذه الشريحة عن المجتمع الأوروبي وقد يشطح البعض بعادات الغرب وتقاليده بدرجة أكبر مما عليه الغربيون أنفسهم. ولعل مرد هذه الظاهرة يعود للأسباب والحيثيات التالية:
1 ـ تدني حالة الالتزام لدى هذا النمط من الناس بالفكر والسلوك الاسلامي بسبب أخذهم الإسلام بالطريقة التقليدية، وفي هذه الحال يستجيب هؤلاء بسهولة لشتى المؤثرات خصوصا إذا كان المؤثر «أجنبي»، وهذه عقدة متفشية في أوساط مثل تلك الشرائح الاجتماعية.
2 ـ عقد مقارنة بين المظاهر المادية والنظم الادارية والقانونية في الغرب وبين الوضع المرتبك والمتناقض الذي تعيشه بلداننا المسلمة وتحميل الواقع الاسلامي ذلك التخلف وكأنه نتيجة للحالة الإسلامية دون وعي الأسباب الاساسية التي أنتجت مثل هذا التفاوت الكبير.
3 ـ انخراط الأعم الأغلب من هذه الشرائح في المؤسسات الغربية وهذه بطبيعتها تمارس دور الهيمنة والتسلط على مشاعر وأفكار المنتسبين لها الامر الذي يؤدي إلى حجب الرؤية والنفوذ إلى خارجها وكأنها نهاية المطاف في العالم.
4 ـ تأثير الحملة الاعلامية الظالمة التي تمارسها الدوائر المختصة ولتي تهدف إلى تشويه المعالم الإسلامية واتهام الفكر الاسلامي بطريقة مدروسة هادفة، وإذا ما صادف هذا التوجه خواءاً فكرياً واستعداداً نفسياً فان تأثيره يتسع باستمرار ويؤدي إلى غسيل كامل للدماغ.
5 ـ غياب المؤسسة الإسلامية القائمة على أسس علمية لتحصين الفرد المسلم وتغذيته فكرياً وسلوكياً لمواجهة مظاهر التحدي الغربي.
وقد تتداخل أسباب أخرى إلى العوامل أعلاه فتؤدي بالتالي إلى تحقيق حال الانبهار بالثقافة الغربية، ومردود هذه الظاهرة - كما هو معروف - افراز حالة سلبية مؤثرة في الوسط الاجتماعي المسلم في الغرب يعمل على تشويه المظاهر الإسلامية ويؤدي إلى تثبيط المشاريع النافعة التي تساهم في تصعيد المنسوب الاسلامي للجاليات المسلمة في الغرب.
والحديث عن تحقيق مظهر الأصالة الثقافية الإسلامية في مواجهة ظاهرة الانبهار بالثقافة الغربية ليست شعاراً نظرياً وانما هو مشروع عمل كبير يتطلب الكثير من الجهود والامكانات في سبيل ايجاد حالة تستوعب ظاهرة الانبهار، وتعمل على احتوائها وتقليل تأثيرها في أوساط الجالية المسلمة في الغرب وأن الدراسة الموضوعية لطبيعة هذا المشروع وفق أسس علمية تمثل الخطوة الاولى لنجاحه وتحقيق أهدافه ومن غير ذلك فأن الفكرة تتحول إلى أماني وشعارات عريضة لا تتعدى الخطابات أو اللقاءات العاطفية.
وتتمثل الخطوة الناجحة - باعتقادنا ـ من تحقيق عملين في آن واحد يقوم الأول على تعميق معاني الأصالة في الثقافة الإسلامية وتجذيرها على مستوى الفكر والسلوك ويعتمد الثاني ايجاد مؤسسات علمية وتشكيلات اجتماعية تعبر عن الاسلوب العلمي لتلقي الثقافة الإسلامية وايصالها إلى الشرائح المسلمة في مختلف مناطق الغرب، ولسنا بحاجة إلى الحديث عن تفاصيل هذه المؤسسات فهي وسائل متعارفة تمارسها الكثير من الوجودات الرسمية والاجتماعية في البلدان الغربية، انما الذي نؤكده هنا هو أن تقوم هذه الفعاليات على ممارسة المنهج الاسلامي وأصول الثقافة الإسلامية في تنفيذ برامجها الفكرية والاجتماعية وهو المائز الأساس الذي يؤكد طابعها الاسلامي.
ان ما تبقى من المشروع المقترح فهو الحديث عن ثقافتنا الإسلامية والعمل على أدائها من حيث المنهج والمضمون كي تكون قادرة على بقاء الإنسان المسلم والحفاظ على هويته الإسلامية في بلاد الغرب.
ويحتل الفكر المركز الرئيس في خلق الثقافة الإسلامية وقد شكل المنهج الاسلامي في طرح الفكرة الإسلامية معلماً متميزاً في وضوح مفاهيمه وأنسجامها وتعبيرها الدقيق عن تطلعات وآمال الاُمّة لذا نجد أن التجربة الإسلامية شهدت أندفاعاً كبيراً للفرد المسلم في سبيل التعبئة الحضارية من أجل التغيير وأعداد المجتمع الإسلامي أستجابة لنداء القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومرد ذلك إلى وجود حال تفاعل حقيقي ووضوح كامل بين الفرد والفكر الذي يغذيه ويقوده نحو معالم طريق لا لبس فيه ولا التواء، وتزداد الحاجة إلى تأكيد هذا المنهج وطرحه بين يدي الفرد المسلم في الغرب الذي يواجه تحديات فكرية واضحة لأن بناء الأفراد في ضوء المنهج الإسلامي يقطع الطريق أمام ظاهرة الانبهار بالحالة الغربية.
والواقع ان تحقيق مثل هذه المهمة لا يأتي عن فراغ وانما يتحقق ذلك من خلال خطوات عملية مدروسة تقوم على أسس عديدة نذكر منها:
1 ـ دراسة المؤثرات المباشرة للواقع الغربي على نفسية الفرد المسلم وأيجاد الجو الملائم الذي يحقق درجة من الاستجابة للتفاعل مع الفكر الاسلامي.
2 ـ طرح المفهوم الاسلامي بطريقة علمية مدروسة وفق عبارة مدركة وواضحة وبالدلالات التي تمثل حالة تماس لما يعيشه جيلنا في السوح الغربية.
3 ـ الاهتمام بتعميق درجة معينة من اللغة العربية بالحد الذي يتكفل هضم المفهوم لدى المتلقي، كما ينبغي اعداد برنامج لغوي خاص لمن تحولت لديهم اللغة العربية إلى لغة ثانوية.
4 ـ العمل على ايجاد تنسيق مشترك بين البيت والمؤسسة، وذلك لأن الأجواء العائلية تؤدي دوراً مهماً في تغذية الفكرة وتعميقها لدى أبنائها، بشرط تحقيق درجة معقولة من الهيمنة التربوية.
5ـ مراعاة المنهج العلمي في طرح فعالياتنا الفكرية وأخص منها الكلمة والمحاضرة أو الخطابة، والتأكيد على الطرح والمضمون بما يحقق هدف بناء المفهوم الإسلامي لدى أفراد المجتمع، وأنه لمن المعيب جدا أن يتحدث المحاضر أو الخطيب في الساحة الغربية عشية القرن الحادي والعشرين بمادة تنتمي إلى نصف قرن مضى، ولكي تكتمل عملية البناء في نفوس الشرائح المسلمة وتأكيد الأصالة في الثقافة الإسلامية ينبغي فتح ملف الثقافة الغربية والتعريف بها بشكل مقارن وتقويم الدلالة والمضمون فيها، فالواقع أن ظاهرة اللمعان في هذه الثقافة والتي بهرت عيون بعض أبنائنا ما هي إلاّ «كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماءاً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً»(1).
وانني هنا لا أجد نصاً عبّر عن طبيعة الحالة الغربية أعمق وأدل من النص الذي افاده الامام الشهيد الصدر «رض» في معرض تقويمه للواقع الغربي بقوله: «يختلف الإنسان الأوروبي عن الإنسان الشرقي أختلافاً كبيراً، فالانسان الاوروبي بطبيعته ينظر إلى الأرض دائما لا إلى السماء وحتى المسيحية - بوصفها الدين الذي آخى به هذا الإنسان مئات السنين - لم تستطع أن تتغلب على النزعة الأرضية في الإنسان الاوروبي بل بدلا من أن ترفع نظره إلى السماء استطاع هو أن يستنزل اله المسيحية من السماء إلى الأرض ويجسده في كائن أرضى، وليست المحاولات العلمية للتفتيش عن نسب الانسان في فصائل الحيوان وتفسر انسانيته على أساس التكييف الموضوعي من الأرض والبيئة التي يعيش فيها أو المحاولات العلمية لتفسير الصرح الانساني كله على أساس القوى المنتجة التي تمثل الأرض وما فيها من امكانات، ليست هذه المحاولات إلاّ كمحاولة استنزال الاله إلى الأرض في مدلوله النفسي وارتباطها الاخلاقي بتلك النظرة العميقة في نفس الإنسان الأوروبي إلى الأرض وان اختلفت تلك المحاولات في أساليبها وطابعها العلمي أو الاسطوري، وهذه النظرة إلى الأرض أتاحت للانسان الأوروبي أن ينشىء قيماً للمادة والثروة والتملك تنسجم مع تلك النظرة»(2). وفي ضوء هذه الفلسفة الحسية والافتتان بالارض والقيم النفسية أصبح الإنسان الغربي سيد نفسه، فهو مصدر التشريع وهو منبع الاخلاق، والمعروف ما تعارف عليه الناس والمنكر ما أنكروه، فليست هناك ثوابت للاخلاق ولا للقيم وكل ما في الحياة نسبي لا ثبات له.
ونتيجة لهذا الارتباط المطلق بالارض وقيم المادة أفرزت الساحة الغربية مظاهر متنوعة في البؤس والاستغلاب والضياع الاجتماعي والنفسي وشيوع مظاهر الجريمة والفتك والاغتصاب والقتل وأصبحت أشد الاجهزة الأمنية لا تقوى على أيقاف هذا الانحدار الاجتماعي الذي يشكل فوضي أجتماعية حقيقية، ولقد حاولت الانظمة الغربية والولايات المتحدة بشكل خاص أن تجد مخرجاً لهذا المأزق الاجتماعي ولكن دون جدوى، وأن أقصى ما استطاعت أمريكا أن توجده هو العمل على تكوين الدولة العالمية من خلال النظام الدولي الجديد الذي تسوده الآن، الا أن هذه الدولة العالمية سوف لا ترى النور ولا يكتب لها البقاء، كما أفاد ذلك الكاتب الفرنسي والمحلل الاقتصادي المشهور «لورن» في كتابه «بلقنة العالم»(3). ويعلق المحلل والمفكر البلجيكي «روبير شنوكير» على الحالة الأوروبية الراهنة بأن «القوى الغربية المنتصرة في حربها الباردة اكتشفت - بفضل هذه الحرب - أن القوة ليست دائمة وأن الانحطاط والتآكل سيدب إليها ومهما طال الزمن فهي لم تعد قادرة على السيطرة على المجتمع - مجتمع الرفاهية والسهولة والمكتسبات الاجتماعية والدولة التي توفر كل شيء - وللمرة الاولى في تاريخ البشرية ينهار نظام عالمي دون أن تسبقه حرب عسكرية شاملة بين قواه العظمى».
وبعد أن شعر النظام الغربي والأمريكي بافلاسه الحقيقي بدأ يدرك أهمية البديل الاسلامي الذي اخذ يتحدى ذلك الواقع ويطرح نفسه رقما حقيقيا في ساحة الصراع الاجتماعي، وبدل أن تتعقل تلك الأنظمة طبيعة الواقع الاسلامي وما يحمل في ثناياه من حلول حقيقية لمأساة الإنسانيّة المعذبة اليوم، اخذت تواجه الإسلام بطريقة بربرية خلافا لمدعيات الأساليب الديمقراطية التي تنادي بها هذه الأنظمة، وأن الحملة العدائية للمسلمين في البلاد الغربية فضلا عن معاناتهم على أيدي صنائعهم في العالم الاسلامي خير شاهد على ذلك، وقد عبرت مجلة فلوار البلجيكية الفصلية لعام 1994 عن التوجه الغربي لمعاداة الإسلام والمسلمين، تقول هذه المجلة: «النغمة السائدة في المجتمع الفرنسي خاصة والمجتمعات الأوروبية عامة هذه الأيام هي عن الغزو الاسلامي الجديد الذي تموله أموال البترول وتقوده ملايين المهاجرين المسلمين من جميع الجنسيات خصوصا بعد عودة الوعي الديني والنزعة التدينية لدى الاجيال الشابة التي ولدت في رحم المجتمعات الاوروبية. وبذلك برزت من جديد اطروحات معاداة الإسلام وتهديده للعلمانية والديمقراطية... وقد اتخذ الفرنسيون من موضوع لبس الحجاب أو الخمار وغطاء الرأس في المدارس حجة وعذرا لشن الحرب الاعلامية باسم الدفاع عن العلمانية».
وتقول في جانب آخر: «وعلى الصعيد السياسي فقد وقف الكثيرون من القادة الفرنسيين مواقف متشنجة ومنحازة ضد أطراف معينة لا لشيء إلاّ لأنها رفعت راية الإسلام والدفاع عن المسلمين في العالم وهذا ما حصل بالفعل أبان حرب الخليج الاولى حيث وقف الغرب برمته إلى جانب العراق «العلماني» ضد ايران «الإسلامية» بحجة وقف زحف المد الديني الاصولي المتطرف ومنع انتشار الارهاب العالمي».
وقد أوردت المجلة نصوص أخرى تظهر فيها دور الاعلام الفرنسي في تسميم الرأي الفرنسي والأوروبي ضد الإسلام من خلال مناقشة موضوع الإسلام بصورة استفزازية ولا موضوعية. هذه المظاهر وغيرها تعكس النفس الذي تحمله الأنظمة الغربية أزاء الحالة الإسلامية وهو بالتالي صراح حقيقي بين ثقافتين متمايزتين وأن وعي هذا الواقع بين صفوف الشرائح المسلمة في الغرب يؤدي إلى ايجاد قراءة واعية صحيحة يتسلح بها أبناؤنا تقيهم تأثير حالة الانبهار وتعمق لديهم الاعتزاز بثقافتهم الإسلامية التي قامت على أساس تكريم الإنسان وتحقيق عزته في الدنيا والآخرة.
« أفمن يهدي إلى الحق احق أن يتبع أمن لا يهدي الا أن يُهدى فمالكم كيف تحكمون4).