لقد كانت العلاقات بين المسلمين وبلاد الغرب في العصور الخالية عدوانية في أغلب الأحيان فقد كان القوم يضطرمون حقداً وغيظاً وكرهاً للمسلمين الذين اقتطعوا من المسيحية أبهى مقاطعاتها ومهدها وقد غذت الكنيسة الكاثوليكية في الغرب تغذية بالغة هذا الحقد، وصور المؤلفون الأوائل ورجال الكنيسة والتقاليد الشعبية الموروثة المسلمين على أنهم قتلة وثنيون مجرمون مدمرون لا أخلاق لهم ولا وازع يردعهم من ضمير أو أخلاق.
يقول الدكتور سعيد في كتاب الاستشراق "إن ما كان يشعر به المسيحيون تجاه الجيوش الإسلامية هو أنها تحمل مظهر سرب من النحل لها أيدي ثقيلة... تدمر كل شيء. هذا ما كتبه Erchembert الراهب في دير مونت كاسينو في القرن الحادي عشر. ولقد نظر القوم في أوربا إلى الإسلام على أنه تجسيد للرعب والدمار، واتباعه على أنهم قبائل شيطانية من البرابرة المكروهين.
ولقد تعمدت الكنيسة أن تشوه صورة الإسلام والمسلمين عند اتباعها، كما وإن حقد الكنيسة ضد الإسلام تمركز في شخص رسول الله عليه السلام. ولقد كانت أوربا مهتمة بالرسول وبالإسلام، ولكنه اهتمام من نوع خاص، اهتمام قصده تصوير الرسول في العقل الغربي على أنه المسيح الدجال والنبي الكذاب ومؤسس اشنع وأقبح الفرق في تاريخ المسيحية.
ولقد أدت هذه الروح العدوانية والتعصب الأعمى وعداء الكنيسة، مع عوامل أخرى كثيرة إلى أن شنت الكنيسة الغربية حرباً مقدسة ضد الإسلام وفي بلادهم بقصد تدمير الإسلام واسترجاع البيت المقدس إلى أحضان الكنيسة، وهي الحروب المعروفة باسم الحروب الصليبية. وعلى الرغم من أن دوافع الحروب الصليبية لم تكن كلها دينية، إلاّ أن التعصب والكره والحقد هي التي غذتها طوال قرنين من الزمان.
ولقد مرت الحضارة الإسلامية في ثلاثة أدوار حتى تبلورت وظهرت شخصيتها وأمكنها أن تشع وتعطي الآخرين.
فأول هذه الأدوار هو دور قصير تميز بجمع القرآن الكريم في طرس واحد وضبط نصه وتوزيعه على الأمصار وذلك حسماً للخلاف بين مختلف الفئات. والقرآن كما هو معلوم هو أساس الحضارة الإسلامية ولبها وتمركز حوله عدد كبير جداً من الدراسات المبتكرة ولذلك فإن حفظ نص هذا الكتاب المقدس وتعميمه إرساء للأساس الصلب للحضارة الإسلامية.
أما الدور الثاني فهو دور نقل التراث الهيليني والفارسي والسرياني إلى اللغة العربية وقد تم ذلك على مدى قرنين من الزمان وأكثر. كما رافق هذا الدور جمع للتراث العربي من شعر ونثر ومعاجم ولغة وأنساب وقصص وأمثال وما شاكل.
ويأتي الدور الثالث تتويجأ للدورين السابقين فيبدأ التأليف الأصيل في جميع فروع المعرفة بلا استثناء وفي طول البلاد الإسلامية وعرضها.
ومما يجب ملاحظته أن هذه الأدوار ليست منفصلة عن بعضها بحواجز زمانية أو مكانية وإنما هي متداخلة مع بعضها تداخلاً عجيباً.
وقد بلغت الحضارة الإسلامية ذروة مجدها وقمة نضوجها ابتداءً من القرن الرابع هجري واستمر الوضع كذلك حتى القرن السابع هجري وما بعده، بل قد استمر هذا التألق في بعض فروع المعرفة حتى القرن التاسع والعاشر هجريين.
والذي ساعد على هذا الازدهار الحضاري هو انتشار التعليم انتشاراً واسعاً جداً، وتسامح المسلمين في نقل الكتب ولو كانت مخالفة لعقائدهم، وكذلك تسامحهم مع أهل الذمة حتى تعاون هؤلاء معهم عن طيب خاطر ورضا، كذلك كان لتشجيع الحكام على العمل والتأليف والنقل أثر طيب جداً وأمثال هؤلاء كثيرون كالمنصور والرشيد والمأمون وسيف الدولة الحمداني وآل سامان وغيرهم كثيرون. ومما ساعد على ازدهار الحضارة ورقيها إيجاد المؤسسات التعليمية لجميع المراحل بدءً من الكتاب وانتهاءً مع الأكادمية العلمية. وقد تأسست في العالم الإسلامي المعاهد والجامعات والكليات والمراصد والمكتبات الكبرى، وكلها كانت أماكن للبحث والدرس والتأليف الأصيل.
ولقد غمط كثير من مؤلفي الغرب الحديثين والمستشرقين هذه الحضارة حقها فوصفوها بأوصاف تكشف عن تعصبهم ضد الإسلام ومؤسساته الحضارية.
على أن هناك نفراً منهم درسوا هذه الحضارة دراسة وافية وأبدوا إعجابهم بها فيقول توماس أرنولد. كانت العلوم الإسلامية وهي في أوج عظمتها تضيء كما يضيء القمر فتبدد غياهب الظلام الذي كان يلف أوربا في القرون الوسطى. ويقول جورج سارتون في كتابه مقدمة في تاريخ العلم: إن الجانب الأكبر من مهام الفكر الإنساني اضطلع به المسلمون، فالفارابي أعظم الفلاسفة.. والمسعودي أعظم الجغرافيين والطبري أعظم المؤرخين.
كذلك يبدي تومبسون إعجابه بالعلم العربي "إن انتعاش العلم في العالم الغربي نشأ بسبب تأثر شعوب غربي أوربة بالمعرفة العلمية العربية وبسبب الترجمة السريعة لمؤلفات المسلمين في حقل العلوم ونقلها من العربية إلى اللاتينية لغة التعليم الدولية آنذاك ويقول في مكان آخر: إن ولادة العلم في الغرب ربما كان أمجد قسم وأعظم إنجاز في تاريخ المكتبات الإسلامية.
هذا وقد أبدى الباحث اليهودي فرانز روزانتال إعجابه الشديد ودهشته البالغة لسمو الحضارة الإسلامية وسرعة تشكلها، ذلك أن ترعرع هذه الحضارة هو موضوع مثير ومن أكثر الموضوعات استحقاقاً للتأمل والدراسة في التاريخ. ذلك إن السرعة المذهلة التي تم بها تشكل وتكون هذه الحضارة أمر يستحق التأمل العميق وهي ظاهرة عجيبة جداً في تاريخ نشوء وتطور الحضارة، وهي تثير دوماً وأبداً، أعظم أنواع الإعجاب في نفوس الدارسين، ويمكن تسميتها بالحضارة المعجزة، لإنها تأسست وتشكلت وأخذت شكلها النهائي بشكل سريع جداً ووقت قصير جداً، بحيث يمكن القول إنها اكتملت وبلغت ذروتها حتى قبل أن تبدأ.
وقد أشاد أحد الباحثين وهو روبرت بريفولت بالحضارة الإسلامية وخص العلم العربي فيها بهذه الإشادة "إن القوة التي غيرت وضع العالم المادي كانت من نتاج الصلة الوثيقة بين الفلكيين والكيميائيين والمدارس الطيبة. وكانت هذه الصلة أثراً من آثار البلاد الإسلامية والحضارة العربية. إن معظم النشاط الأوربي في مجال العلوم الطبيعية إلى القرن الخامس عشر ميلادي كان مستفاداً من علوم العرب ومعارفهم، وإني قد فصلت الكلام في الدور الذي لعبته العربية في اليقظة الاوربية، لأن الكذب والافتراء كانا قد كثرا في العصر الحاضر، وكان التفصيل لابد منه للقضاء عليهما.