جاك لانغاد / ترجمة وجيه أسعد
( الحديث ) , بعد القرآن.هو الذي يجعلنا نعود في الزمن الى أبعد,بحثاً عن ا
لسياق الذي صاغ شيئاً فشيئاً إشكالية الدراسات الألسنية العربية.ونحن
سنتساءل إذن على التوالي عما يقوله لنا ( الحديث ) عن اللسان وما تعلق به
.ثم سنحاول أن نستخلص التصور الضمني للسان الذي يحتويه الحديث.ولكن
لنبين أول الأمر ماليس سوى مجرد توافق.فكما أن لفظة ( قرآن ),القرآن,
تكديس للمصطلح الذي يدل على القراءة,كذلك لفظة ( حديث ),إنها مقتبسة
هي أيضاً من المعجم النوعي للسان.والواقع أن راغب الأصفهاني ينتقل,في
الشرح الذي قدمه للفظة,بعد أن لاحظ وشرح استعمال الجذر حيث لفظة
( حدوث ) تعني ظهور الشيء بعد أن كان غير موجود,وذلك على نحو عرضي
وجوهري على حد سواء,وحيث لفظة ( إحداث ) تعني خلقه,أقول ينتقل راغب الى
المعنى اللغوي للفظة :" كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته
أو منامه يقال له حديث ". ويسوغ هذا المعنى باستشهاد من القرآن :" وإذا أسر النبي
الى بعض أزواجه حديثا (...) ".أو عندما تعني اللفظة بالجمع لغزاً
, قصة غامضة,فإن يوسف هو الذي يتكلم عندئذ:" رب قد أتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث ".ويمكننا أن
نشير الى أن اللفظة بالجمع
يمكنها أيضاً
أن تعني أسطورة, وذلك ما يبرز من التعبير " جعلناهم أحاديث ".ولنلاحظ أخيراً,مع راغب
الأصفهاني,ذلك المعنى الخاص الذي يمكن أن تأخذه لفظة ( حديث) على لسان الله
:إنها تدل على القرآن نفسه :" سمى الله كتابه (حديثاً) عندما قال :" فليأتوا ب(حديث)
مثله إن كانوا صادقين ",أو عندما يعلن الله :"أفمن هذا (الحديث) تعجلون ؟".
إن المحدثين والمتحد الإسلامي لم يختاروا دون ريب بالمصادفة لفظة حديث للدلالة على
الأحاديث التي "تروي(أفعال) النبي و(كلامه),أو(موافقته الضمنية) على الكلام أو الأفعال
التي تجري في حضوره ".إنهم أخذوا لفظة مستعملة نسبياً في القرآن,ولها في بعض الحالات,وقد قلنا ذلك للتو,قيمة دينية.
وأدب (الحديث) واسع,وغير مطروح هنا أن نستعرضه أو نحلله,بل أن نسترعي الانتباه الى بعض السمات ذات الدلالة منه,سمات يمكنها أن تجعلنا نتقدم في بحثنا في اللسان العربي.ونحن سنوجه انتباهنا بالحري الى البخاري,أكبر مؤلفي
مجموعات الأحاديث,المرجع الأول,وذلك كلما بحثنا عن سند لكلامنا أوعن توضيحه بالمثال.
ما يقوله الحديث قولاً صريحاً عن اللغة
نطرح السؤال التالي أول الأمر,وذلك ذو علاقة باللسان وينقل الوقائع الألسنية,
ماذا يقول الحديث عن ذاته وعن تعليمه؟ إن البخاري يخبرنا عن هاتين المسألتين
في بداية فصله الأول عن العلم,(كتاب العلم).
أولاً,إن مفردات (الإسناد) ذاتها عرضة للتساؤلات,بمعزل عن مشكل الصحة النوعي (للإسناد)تبعاً لقيمة الشخصيات التي تؤلفه :ما الرأي في الأفعال المختلفة التي يدخلها الرواة ؟ إن الباب الرابع,(باب قول المحدث ),يعالج "اللفظة التي يستخدمها المحدث:
باب
"قول المحدث :حدثنا أو أخبرنا أو أنبأنا,وقال الحميدي :كان عند ابن عُيينة حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت واحداً,وقال ابن مسعود :حدثنا رسول الله (ص),وهوالصادق المصدوق,وقال شقيق :عن عبد الله سمعت من النبي (ص) كلمة,وقال حذيفة: حدثنا رسول الله (ص) حديثين,وقال أبو العالية :عن ابن عباس عن النبي (ص) فيما يروي عن ربه,وقال أنس :عن النبي (ص) يرويه عن ربه عز وجل,وقال أبو هريرة : عن النبي (ص) يرويه عن ربكم عز وجل."
وينبغي لنا أن نلفت النظر الى أهمية التكافؤ القائم هنا بين الأفعال (حدث,أخبر,أنبأ,روى),والقائم بصورة مع الفعل (قال),وهي أفعال تحيل جميعها الى الكلام المنطوق.وكان ممكناً أن نتوقع أن نرى فعلاً مفضلاً أو آخر,إما (قال) بفعل استعماله الأكثر تواتراً,أو (حدث) الذي يحيل الى تسمية ذلك صراحة,فإن الأمر الأساسي,ولاريب,لايكمن في استعمال مفضل لهذا الفعل أو ذاك,بل في استعمال فئة من الأفعال,أفعال ذات علاقة ب(فعل أو كلمة يرويان بالكلام ).ولكن هناك تكافؤ آخر يتدخل بين هذه الأفعال والفعل (سمع).فالإرسال والاستقبال يكونان على هذا النحة واقعاً واحداً ووحيداً ويمكنهما,كلاهما,دون تمييز,أن يمنحا (الحديث) قيمته.ونجد هنا شاغل الأمانة للحديث وللسلطان.ولايكفي أن نقول شيئاً,بل ينبغي أن يكون هذا القول قد استقبل استقبالاً صحيحاً,وسينجم عن ذلك ملاحظة من ملاحظات المحدثين عن الطرائق المختلفة الجائزة لاستقبال الحديث ( تحمل الحديث ),طرائق نصنفها على النحو التالي :
- السمع :إنها الطريقة المفضلة,عندما يجمع الطالب ما ينقله بدوره من فم الشيخ,فمه ذاته.
- القرأة على الشيخ,مع كتاب أو بدونه,فالشيخ صاغ,مع كتاب أو بدونه,هو أيضاً.
- الإجازة,التي بها يجيز شيخ نقل (حديث) تفصيلها يمكنه ألا يكون موضحاً.
- المناولة,حيث الشيخ يناول الطالب نسخة أو المخطوطة الأصلية من مجموعة أحاديث أومن مجموعات كانت قد نقلت اليه.
- يعطي الشيخ كتاباً له الحق في نقله بذاته أو بواسطة شخص آخر أن ينقله.
- الوصية : ينقل الشيخ بوصيته,قبل موته أو من خلال سفر,حق نقل مؤلفاته .
- الوجادة : من يجد مجموعة مكتوبة بخط شيخ يمكنه أن ينقلها إذا شرح كيف وجدها.
وضبط هذا التصنيف والتمييزات التي يدخلها يمنحان النقل الشفهي الامتياز,نقلاً شفهياً,هو الأوثق بوصفه موضوعاً في الطليعة.وذلك أمر لايثير الدهشة من حيث أن (الحديث) هو,بصورة أساسية,قول يحيل الى حجة: ولا شيء يحل محل سماع المرء هذه الحجة تنطق بهذا القول ذاته.ومايصح على كل لفظة من الألفاظ يصح أيضاً على المجموعة.
ولكن ما هو مفيد جداً ويخبرنا عن طرائق التعليم في القرن
Ix/III
هو ماله علاقة ب(القراءة على شيخ): والبخاري واضح في هذه المسألة التي ينذر لها العرض التالي :
باب
ما جاء في العلم,وقوله تعالى :( وقل رب زدني علماً ) "القراءة والعرض على المحدث,ورأى الحسن (البصري)(مات 110/728) والثوري(مات 161/778 ) ومالك ( 179/795) القراءة جائزة,واحتج بعضهم في القراءة على العالم بحديث ضمام بن ثعلبة قال للنبي (ص) :الله أمرك أن نصلي الصلوات ؟قال :نعم,قال: فهذه قراءة على النبي (ص),أخبر ضمام قومه بذلك,فأجازوه,واحتج مالك بالصك يقرأ على القوم,فيقولون :أشهدنا فلان, ويقرأ ذلك قراءة عليهم,ويقرأ على المقرىء فيقول القارىء: أقرأني فلان.حدثنا محمد بن سلام حدثنا محمد بن الحسن الواسطي عن عوف عن الحسن قال:لابأس بالقراءة على العالم,وأخبرنا محمد بن يوسف الفربري وحدثنا محمد بن اسماعيل البخاري قال:حدثنا عبيد بن موسى عن سفيان قال:إذا قرىء على المحدث فلا بأس أن يقول :حدثني,قال :وسمعت أبا عاصم يقول عن مالك وسفيان :القراءة على العالم وقراءته سواء".
فالنقل بالسمع ممكن على هذا النحو بأسلوبين :إماأن يسمع المرء نفسه(حديث) شيخ وإما أن يسمع المرء هذا ( الحديث ) لشيخ,إنه سماع سلبي وايجابي نقول .وفي ذلك يكمن ضرب من التوسيع الكبير لمجال السمع الذي يؤكد ما كنا قد قلناه قبل قليل عن التداخل الوثيق بين الارسال والاستقبال اللذين لا يكونان سوى واقع واحد وحيد: وذلك هو من الصحة بحيث أن كل لفظة من اللفظتين يمكنها أن تحل محل الأخرى .فكلام (الحديث)يتبادله على هذا النحو الشيخ والتلميذ,وليس التعليم هبة من المعلم الى تلميذه فحسب,ولكنه هو أيضاً اختبار وتحقيق : وتصبح الكلمة (محل التبادل ).
وثمة ملاحظة أخرى عن (تحمل الحديث) ستغنى بمجموع الطرائق التي ذكرناها :طرائق تلفت الانتباه كلها الى سمة الحجة في هذا النقل :إذا باشر التلميذ يعلم,فذلك لأنه تلقى سلطة حجة, مجازة هي ذاتها,بصورة ممكنة مختلفة.إنه الحاح على الحجة التي تميز كل صورة من صور التعليم الشفهي,الى حد مفاده أن الواجب يقضي بصورة مطلقة أن يكون بالوسع أن تشرح الصلة بالحجة عندما يحدث نقل المعرفة بغير الطريقة الشفهية,بواسطة مجموعة مكتوبة على سبيل المثال, ك الكتابة ,الوصية أو الوجادة : فليس للمكتوب قيمة إذا ترك لذاته,دون إرجاع صريح الى مؤلفه . ونحن نظل تماماً في منظور يسوده تفوق التعليم الشفهي ودليل الحجة .
ويتكلم لنا ( الحديث ) هنا وهناك , إضافة الى ما يعلمنا عن نفسه,طبيعة كلامه,وقيمته,وتعليمه,ونقله,على اللسان والألفاظ ذات العلاقة به.ونقول,لكي نبدأ,يتكلم على ألفاظ (اللغة) وألفاظ (اللسان).واول هاتين اللفظتين,(اللغة),غير الماثلة في القرآن,لم يتبينها ونسنك إلا في ثلاث فقرات من مجموعات الأحاديث : ( اللغة ) مرادف اللسان المحكي وتستعمل بدلاً من (اللسان).
ويتكرر اللسان,على العكس,كما في القرآن عدداً معيناً من المرات في المجموعات.ويعني, في معظم الحالات,عضو الكلام,كما هو الأمر عندما صرح أن الكلام (المنطق) زنا اللسان إذا كان النظر زنا العين,أو أن المؤمن أيضاً يشن الحرب المقدسة بسيفه ولسانه.ولكن (الأحاديث) تستعمل,في قليل من الأحيان مع ذلك,لفظة (لسان) بمعنى اللسان المحكي.هدفها من وراء ذلك,تارة,أن تسوغ حق الشعوب في استعمال لسانها الخاص,كما هوالأمر عندما وضح أن الطلاق يتم باللسان القومي,أو عندما أدان النبي خالداً لأنه قتل مغلوبين كانوا يلفطون لفظاً سيئاً,بوصفهم أعاجم,صيغة (أسلمنا),ويضيف الحديث عندئذ:"إن الله يعلم الألسنة كلها.ولكن الهدف من جهة أخرى هو أيضاً,إضافة الى هذا التسويغ لتنوع الألسنة,أن تعلن حقوق لسان (قريش).وإليكم هذا الحديث المعروف جداً:
باب
"نزل القرآن بلسان قريش والعرب,قرآناً عربياً بلسان عربي مبين.
حدثنا أبو اليمان,حدثنا شعيب عن الزهري وأخبرني أنس بن مالك,قال:فأمر عثمان زيد بن ثابت,وسعيد بن العاص,وعبد الله بن الزبير,وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام,أن ينسخوها في المصاحف,وقال لهم:إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن,فاكتبوها بلسان قريش,فإن القرآن أنزل بلسانهم,ففعلوا."
إنه تثمين أكثر قوة بمقدار ما يستند الى سلطان القرآن,لأن المسألة المطروحة كانت مسألة تدوينه وكتابته.
وسيشغل الجذر ( ك ل م ) مكاناً أكثر أهمية في (الحديث),إما أن يكون فعلاً بالشكل الثاني أو الخامس,وإما بالشكلين المصدريين (كلمة) و (كلام).
إن (الكلمة) هي الكلمة التي يقولها النبي,وكلمة المؤمن الناطق بصيغة "لااله إلا الله".إنها الكلمة الإلهية كما في القرآن.أما (الكلام),فيمكنه أن يكون له أيضاً معنى الكلام الإلهي,ولكن له على وجه الخصوص,وهذا هو مايعنينا هنا أكثر مايعنينا,استعمالاً يتكرر غالباً في (الحديث),في التعابير التالية: (باب كلام...,باب الكلام في ....,باب ما جاء في الكلام),الخ.وتمضي كثير من هذه الفصول في اتجاه ضرب من التقنين وتقعيد الكلام أو تنظيمه.ومن المؤكد أن هذا أمر كان موجوداً من قبل في القرآن حيث كنا قد بينا الاستعمالات الكبيرة العدد-332- لفعل الأمر (قل).وفي حين أن النص في القرآن يعبر عن الأمر الإلهي,ثمة مع ذلك,في (الحديث),ضرب من التراجع بالنسبة للكلام بحيث يستطاع تنظيم أشكاله المختلفة وفق الظروف.وبوسع المرء أن يقول إن أحد جوانب (الحديث) هووضع الكلام حسب الأصول وتنظيمه.
ومثل هذا التوجيه,وهذا التثمين للكلام,ينفذان بصورة طبيعية جداً الى ما يقوله لنا الحديث التالي:
"باب حفظ اللسان.حدثني عبد العزيز بن عبد الله,حدثنا ابراهيم بن سعد,عن ابن شهاب,عن أبي هريرة,قال:قال رسول اله(ص) :من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أوليصمت (...) أبو هريرة سمع رسول الله يقول:إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب.وعن أبي هريرة دائماً,عن النبي (ص) قال: إن العبد ليتكلم بكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً,يرفع الله بها درجات,وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لايلقي لها بالاً,يهوي بها في جهنم."
وتكتسب الكلمة على هذا النحو وضع عمل,بل (عمل ذي امتياز), لأن الإنسان سيكون في هذا(الحديث),وفق كلماته,محكوماً عليه بأنه يستحق الجنة أو النار.وهكذا يتكرس اتجاه يمنح الكلمة امتيازاً ويستمد مصدره من القرآن.ولن يكف عن النمو بالتالي.
وعلينا مع ذلك أن نتذكر ان المسألة ليست مسألة أي كلمة,بل الكلمة المطابقة للكلمة الإلهية.ويؤكد (الحديث) ذلك بقوة.وفي الحالة التي لانعيره اهتماماً كافياً,ثمة (حديث) قائم ليذكرنا به:
"باب مايكره الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن (...)عن ابن عمر عن النبي (ص) قال:لأن يمتلىء جوف احدكم قيحاً,خير له من أن يمتلىء شعراً."
ولايمكننا أن نرفض,رفضاً أكثر قوة,كا كلمة ليست الكلمة الإلهية.
ما يقوله الحديث ضمناً عن اللغة
ثمة بيانات اخرى كثيرة عن الكلمة واللسان يقدمها لنا (الحديث),ولكن بطريقة ضمنية هذه المرة.وسنبحث هذه المرة في استخلاص بعض منها, بعض ذي علاقة على نحوأخص بموضوعنا.
والبيان الأول ذو الأهمية تقدمه لنا بنية(الحديث) نفسها:إنها تتضمن جزأين,سلسلة الناقلين,(الإسناد),والنص,(المتن).وسيرتكب المرء خطأ كبيراً إذا أراد تفضيل أحدهما على الآخر,ذلك أن ما يقال في (المتن),في (الحديث),ليس له قيمة إلا القيمة التي يمكن أن ينعم بها الناقلون عليه ودرجة الثقة التي يمكنها أن تعزي إليهم.وهكذا يوجد في مجموعات الأحاديث عدد من الأحاديث المتماثلة التي لا تختلف إلا ب(إسنادها).
ونحن ننكب هنا على (الإسناد) الذي تكلمنا للتوعلى اهميته. وهذا (الإسناد) متمفصل,وقد رأينا ذلك فيما سبق, حول أفعال تدل على أشكال مختلفة من الكلام:قال,قص,روى,أعلن,إلخ,وحول فعل سمع,أفعال يحل بعضها محل بعضها الآخر.وذلك يعني أن (الحديث) يرتكز على نقل شفهي ويسوغ به.
ويمكننا أن نضيف الى الملاحظات المتنوعة التي ابديناها في الصفحات السابقة أن بنية (الإسناد) ذاتها متكونة تبعاً لهذا الموروث الشفهي وتفوقه :ينبغي الوصول الى تكوين سلسلة غير منقطعة تتيح لنا أن نرجع الى النبي ذاته أو الى اشخاص شاركوه حياته,وهذا سماع من الفم الى الأذن.وسيفضي ذلك الى بعض البحوث في الحقل الواسع لنقد (الحديث),بحوث تنصب على الناقلين,عصرهم ومكان حياتهم,كيما يكون بالمستطاع أن تراز سمة الحقيقة في (إسناد) وفي صحته أو احتمال الصحة فيه.
(والإسناد) هو,على هذا النحو, شكل من النسابة,نسابة الكلام.إنه يرتكز,شأنه شأن كل نسابة,على مصادرة ضمنية لقيمة الأصل والقديم وسلطانهما,ولولا ذلك لما تجشم المرء عناء البحث في هذا الأصل.ويؤكد هذه القيمة عرضياً,قيمة القدم,بالنسبة للكلام,(حديث):
باب
إكرام الكبير ويبدا الأكبر بالكلام والسؤال
"(....) عن رافع بن خديج,وسهل بن حثمة,أنهما حدثاه أن عبد الله ابن سهل ومحيصة بن مسعود أتيا خيبر,فتفرقا في النخل فقتل عبد الله ابن سهل,فجاء عبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة ابنا مسعود الى النبي (ص),فتكلموا في أمر صاحبه,فبدأ عبد الرحمن وكان أصغر القوم , فقال النبي (ص):كبر الكبر(قدم الأكبر للتكلم)."
وغير ممكن لفت الانتباه الى دور دليل الحجة,خاصية كل نقل شفهي,أفضل من ذلك.فالأقدم,الأكبر عمراً,يعزى اليه السلطان الأكبر.وذلك لايمكنه أن يكون مسألة ذكاء أو فطنة ليست ذات علاقة بالعمر,بل بسبب الخبرة,التي يؤكد الحديث ضمنياً أن جميع الناس يكتسبونها على نحو واحد وأن الزمن وحده إذنهو الذي يكون قيمتها.فنحن هنا سجناء الزمن وتسلسل الأحداث التاريخي,وتلك أيضاً هي الحال دائماً في السيرورات التي تدخل السمع,ذلك أن سماع قول لايمكنه إلا أن يكون متتابعاً لهذا القول بفضل فهم إجمالي لنصه.إن الكلام يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسير النقل وبتجربة ناقله,وهاتان خاصتان خارجيتان بالنسبة للكلام ذاته.وسنرى فيما بعد,عن هذه المسألة,كل الفارق بين كلام (الحديث) وكلام الفلسفة على سبيل المثال.
فرجحان سمة الشفهي للكلمة وأهمية الحجة :هذان الجانبان سيسمان على نحو مفارق علامات المشافهة بالكتابة.
أولاً,ينجم أسلوب النظر الى المكتوب الخاص الذي هو القرآن ,عن (الحديث) التالي:
"باب كتابة العلم.عن أبي جحيفة ,قال :قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال :لا,إلا كتاب الله,أوفهم اعظيه رجل مسلم,أو ما في هذه الصحيفة(....)."
وما نلاحظه هنا إنما هو أن فهم الكتاب الإلهي موضوع على مستوى واحد مع النسخة من هذا الكتاب.ونعتقد أننا نرى هنا التأكيد أن المكتوب لا يمكننا النظراليه بصورة منعزلة بل ينبغي أن يرافقه فهمه وأعني أن المكتوب لا يمكنه أن يكون منعزلاً عن نقله الشفهي,وأن المكتوب وحده غير كاف ولا يحتوي في ذاته على ما يتيح فهمه.وذلك ماكان من قبل مفهوماً بصورة ضمنية فيما رايناه في (تحمل الحديث).إنه أمر مؤكد بوصفه مبدأ,بوسعنا أن نقرأ دون أن تصيبنا الدهشة بعض المقاطع التي يبدو أنها تمنح المكتوب الرجحان كما في (الحديث)التالي:
"يصرح أخو وهاب بن منبه : سمعت أبا هريرة يقول:"ليس لدى أحد من صحابة الرسول أحاديث عن الرسول أكثر مني,إلا أن يكون عبد الله بن عمر : الحقيقة أنه كان يكتب وأنا لاأكتب ."
وليس ثمة فس هذا (الحديث)ذلك التأكيد على المشافهة,بل العون –عون كبير من جهة أخرى- عون قد تقدمه الكتابة للمشافهة,دون أن يكون بوسع المكتوب أن يطمح الى الحلول محل الشفهي أو يتجاوزه.
ونحن نرى على النحو نفسه,وفي الاتجاه نفسه,بنتيجة (حديث)عن السمة المقدسة لمكة وتحريم ارتكاب لأي جريمة قتل فيها وعن العقوبة على مخالفة هذه القاعدة,أن يميناً قد سمع كل ماأتى النبي على القول في هذا الموضوع,يقترب ويقول :"اكتب لي يارسول الله ".ويقول النبي عندئذ:"اكتبوا لأبي فلان".
والمسألة,هنا أيضاً,ليست مسألة قيمة عليا يمنحها المكتوب,ونحن على الأقل نفهمها على هذه الصورة,بل تعزيز الكتابة بالمشافهة وتذكير مخصص لييسر نقل هذه الكلمات,كلمات النبي,وييسرذكراها,بالنظر طبعاً الى ان سلطان هذه الكلمات يرتكز على نقلها الشفهي.ويتيح المكتوب أيضاً تجاوز الصعوبات التي يسببها موت (الحفّاظ).
وعلى النحو نفسه ولاريب إنما ينبغي لنا أن نفهم (الحديث) الذي يرافق الأحاديث التي ذكرناها,مع أنه أقل سهولة في الشرح والتفسير كما سنرى.
"(...) عن ابن العباس,قال :لما اشتد بالنبي (ص) وجعه قال:ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده,قال عمر :إن النبي (ص) غلبه الوجع,وعندنا كتاب الله حسبنا,فاختلفوا,فكثر اللغط,قال :قوموا عني,ولا ينبغي عندي التنازع,فخرج ابن عباس يقول :إن الرزية ما حال بين رسول الله (ص) وبين كتابه."
وهذا (الحديث) مثير للاهتمام جداً بفعل تضارب الآراء غير المكتوم في مسألة الكتابة.وواقع أن ثمة كتابة أسمى من الجميع,وهي المرجع النهائي,أمر غير موضوع موضع الالتهام.وما بين ذلك أن لفظة (كتابة) مستعملة في كلتا الحالتين.والمسألة المطروحة على بساط البحث تكمن في معرفة مفادها إن كان معقولاً وجود كتابات أخرى,وماهي طبيعتها عندئذ وما علاقتها بالقرآن.فالأحاديث السابقة كانت تبين أن من الممكن اللجوء الى الكتابة لتدوين كلام النبي كيما يكون تذكره على نحو أفضل.ولماذا هذا الحديث لم يتخذ المسيرة نفسها؟ولماذا هذا التعارض بين ابن عباس وعمر؟ولماذا قابل عمر هذه "الكتابة الأخيرة,كتابة النبي,بهذه الاساسية التي هي القرآن؟ثمة ضرب من اللبس في هذا النص عن هذه المسألة.ذلك أن التنزيل كان يتلاحق ما دام النبي كان حياً وكان إذن من الطبيعي جداً اللجوء الى الكتابة لتدوينه.ذلك سيكون معنى قصة ابن عباس وتعليقه.( ألا يعرض موقف عمر بالحري اتجاهاً أكثر تأخراً,لاحقاً لموت النبي,ويعارض تكوين أي كتابة بوصفها مرجعاً غير القرآن؟ذلك يشرح أنه يصف القرآن أنه مكتمل,في حين أن النبي لم ينه كلامه.هل ربما يعبر مثل هذا الاتجاه المنسوب الى عمر عن ضرب من الحذر من وعي ناشيء بأهمية الكتابة وقيمتها الجوهرية,بمعزل عن علاقتها بالكتاب المقدس؟إن السؤال يظل مطروحاً.)
ويتيح لنا مجموع هذه المقاطع أن نؤكد مع ذلك أن (الحديث),في العلاقات بين الكتابة والمشافهة,يمنح المشافهة التفوق دون منازعة وأن لا شيء يمكنه أن يحل محلها.والتفوق لا يعني الأفضلية, بمعنى أن ليس الأمر أمر قضية عنادية بل تكاملية.وتبين الكتابة,بدورها,دور العون للذاكرة ودور الغوث الذي يسد ثغراتها,أنها لاغنى عنها بوصفها وسيلة نقل.ولكن كل المقاطع المذكورة تبين أنها لم تكن قط مقبولة بصفتها وسيلة وحيدة لهذا النقل أو مستقلة: إنها إنما ستكون دائماً موضع الاعتبار في علاقتها بالمشافهة,ولوأنها مأخوذة بالحسبان.
ونود أن ننهي هذه الملاحظة عن اللسان والكلام من وجهة نظر (الحديث) بمثال أخير سيتيح لنا أن نوضح توضيحاً افضل وضع هذا الكلام وأن نبين سمته العامة حين ظهر مع محمد في الجزيرة العربية بداية القرن السابع.والمقصود (حديث) روي عدة مرات,يعرض النحو الذي تلقى عليه محمد تنزيله الأول من الملاك جبريل:
"اقرأ باسم ربك الذي خلق (....). حدثنا ابن شهاب عن عروة بن الزبير أنه قال(...) حتى جاءه الحق وهو في غار حراء,فجاءه الملك فقال:اقرأ,قال :ماأنا بقارىء,
قال:فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد,ثم أرسلني,فقال :اقرأ,قلت:
ما أنا بقارىء,فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد,ثم أرسلني,فقال:"اقرأ باسم ربك الذي خلق,خلق الإنسان من علق,اقرأ وربك الأكرم".فرجع بها الرسول (ص) يرجف فؤاده,فدخل على خديجة بنت خويلد (ض),فقال :زملوني,فزملوه حتى ذهب عنه الروع,فقال لخديجة وأخبرها الخبر:لقد خشيت على نفسي,فقالت خديجة :كلا والله ما يخزيك الله ابداً,إنك لتصل وتحمل الكل(....)."
وما يعنينا هنا ليس قصة التنزيل الأولى على محمد,بوصفها كذلك, بل ما يعنينا أن هذه القصة,التي يرويها (الحديث), تتيح لنا ان نفهم وضع الكلام في زمن محمد,وفق وجهة نظر المحدثين.وما يستوقفنا في الوقت نفسه إنما هو هذا الجواب من محمد :"لست بقارىء". كما لو أنه,في ذهن محمد,لم يكن يوجد سوى أسلوب واحد للقراءة,وأسلوب واحد لأن يكون المرء(قارئاً),اسلوب يرفض تماماً أن يمارسه,وعلى هذا النحو تماماً, من جهة أخرى,إنما يفهمه ابن اسحاق في كتابه (السيرة) لأنه يشرح وهو يقول, وقد ذكرنا بذلك فيما مر ذكره:"ولم يكن في خلق الله عز وجل أحد أبغض الي من شاعر أو مجنون كنت لا أطيق أنظر اليهما.".
ويمكننا على هذا النحو أن نعتبر أنه لا وجود في ذهن محمد,سوى قراءة واحدة,قراءة الشعراء.وذلك قد يشرح الاضطراب العميق لدى جماعة (القراء) الفاقدة الاعتبار,جماعة الشعراء وملهمين آخرين.وهنا إنما تتدخل خديجة وبصيرتها النافذة,ذلك أنها فهمت أن نموذجاً آخر من الكلمة يظهر مع ما دعي محمد الى قراءته,كلمة ستكون,هي,صحيحة,على خلاف الكلمة التي كانت شائعة مع الشعراء والكهنة.
وهذا (الحديث),منظور اليه على هذا النحو,يبين,من جانب المحدثين,أسلوباً في عرض الكلمة الإلهية ,كما ينقلها محمد,بصفتها كلمة جديدة كل الجدة ومستحدثه.
ففي وسط كانت كلمة الشعراء والمجانين تتيح المجال وحدها للقراءة,ها هو نمط جديد من القراءة يحل محلها,لأن نمطاً جديداً من الكلمة يظهر.وهكذا كان لمحمد تأثير (مجدد) كل التجديد – حتى لا نستعمل لفظة يكتنفها الالتباس,لفظة (ثوري)- في الوظيفة الاجتماعية,والثقافية والدينية , وظيفة الكلمة في بداية القرن السابع.
وهذا التجديد الذي حملته الكلمة التي أعلنها محمد ترتبط بمضمونها دون ريب:إنها ليست كلمة إنسانية,أو كلمة صادرة عن (مجانين),ولكنها كلمة ناجمة عن تعليم إلهي.وهذه الكلمة مجددة لأنها هي كلمة الله ذاتها التي ينقلها النبي,وهذه الكلمة ذاتها هي التي كان يجهلها قبل أن يعلمه الله إياها.
وقد يشرح كل ذلك الحذر,في بداية الإسلام,من كل ماكان شعراً,حتى يفسح المجال لهذا الشكل النافس من القراءة,الذي هو القرآن,أن يتعزز جيداً.
وفي نهاية هذه الملاحظات,يمكننا أن نستخلص السمات الكبرى للتصور الذي كونه (الحديث) لنفسه عن اللغة و الكلام.
الأمر الأول أن أسم (الحديث),اسمه ذاته,يجعل منه تأليفاً أدبياً موجهاً نحو الكلمة وتأثير رواياتها,وذلك في هدفه وفي أنماطه على حد سواء.والأمر الثاني أن إبراز الكلمة يرافقه اللجوء الأساسي الى الحديث الشفهي وتعليم الحجة.إن (الحديث) هو وضع الكلمة حسب الأصول بعد التجديد الكبيرالذي جلبه التنزيل على محمد.إنه تنظيم الكلمة وإقامة علاقاتها مع الكتابة التي هي مجرد مكمل لهل ولكنه مكمل لا غنى عنه.
لسان القرآن ولسان (الحديث).فالكلمة واللسان كانا قد أصبحا,مع القرآن,كلمة الله الأحد ولسانه.وذلك كان تجديداً,تحولاً كبيراً في شبه الجزيرة العربية بداية القرن السابع.وسيستمر (الحديث) في هذا المنظور وسيوضح بأساليب شتى هذه السمة الإلهية للكلمة والسلطان الإلهي والنبوي,التي عزيت الى اللسان العربي.ويمكننا القول,استجابة لملاحظات بول نوياً,إننا,مع محمد,نشهد (استيلاء الله على الكلمة ).وكل مايلي,في القرآن وفي الحديث,سنشد حماية هذا "الاستيلاء",وتنظيم عرضه ونشره بين الناس.وكل العمل الإنساني,إذ يفعلان ذلك,سينزع الى أن يثبت هذه الكلمة وهذا اللسان ويحافظ عليهما ويصونهما.
وبنجاح,يمكننا أن نقول,لأن هذا اللسان يظل دائماً حياً في أيامنا هذه