إذا أخذنا التفاصيل التي تتميز بها كل عبادة وآدابها بالدرس والتحليل، فكثيراً ما نستطيع على ضوء تقدم العلم الحديث ان نتعرف على الحكم والأسرار التي يعبر عنها التشريع الإسلامي بهذا الشأن واستطاع العلم الحديث ان يكشف عنها.
وقد جاء هذا التطابق الرائع ـ بين معطيات العلم الحديث وكثير من تفصيلات الشريعة وما قررته من أحكام وآداب ـ دعماً باهراً لموقف الشريعة، وتأكيداً راسخاً على انها ربانية.
ولكن على الرغم من ذلك نواجه في كثير من الحالات نقاطاً غيبية في العبادة، أي جملة من التفاصيل لا يمكن للإنسان الممارس للعبادة ان يعي سرها ويفسرها تفسيراً مادياً محسوساً، فلماذا صارت صلاة المغرب ثلاث ركعات، وصلاة الظهر أكثر من ذلك؟!، ولماذا اشتملت كل ركعة على ركوع واحد لا ركوعين وعلى سجدتين لا سجدة واحدة؟!، إلى غير ذلك من الأسئلة التي يمكن ان تطرح من هذا القبيل.
ونسمي هذا الجانب الذي لا يمكن تفسيره من العبادات بالجانب الغيبي منها. ونحن نجد هذا الجانب بشكل وآخر في أكثر العبادات التي جاءت بها الشريعة، ومن هنا يمكن اعتبار الغيبية ـ بالمعنى الذي ذكرناه ـ ظاهرة عامة في العبادات ومن ملامحها المشتركة.
وهذه الغيبية مرتبطة بالعبادات ودورها المفروض ارتباطاً عضوياً، ذلك لأن دور العبادات هو تأكيد الإيمان والارتباط بالمطلق وترسيخه عملياً، وكلما كان عنصر الانقياد والاستسلام في العبادة أكبر كان أثرها في تعميق الربط بين العابد وربه أقوى. فإذا كان العمل الذي يمارسه العابد مفهوماً بكل أبعاده، واضح الحكمة والمصلحة في كل تفاصيله; تضاءل فيه عنصر الاستسلام والانقياد، وطغت عليه دوافع المصلحة والمنفعة، ولم يعد عبادة لله بقدر ما هو عمل نافع يمارسه العابد لكي ينتفع به ويستفيد من آثاره.
فكما تنمى وترسخ روح الطاعة والارتباط في نفس الجندي خلال التدريب العسكري، بتوجيه أوامر إليه وتكليفه بأن يمتثلها تعبداً وبدون مناقشة، كذلك ينمى ويرسخ شعور الإنسان العابد بالارتباط بربه بتكليفه بأن يمارس هذه العبادات بجوانبها الغيبية انقياداً واستسلاماً، فالانقياد والاستسلام يتطلبان افتراض جانب غيبي، ومحاولة التساؤل عن هذا الجانب الغيبي من العبادة والمطالبة بتفسيره وتحديد المصلحة فيه يعني تفريغ العبادة من حقيقتها ـ كتعبير عملي عن الاستسلام والانقياد ـ وقياسها بمقاييس المصلحة والمنفعة كأي عمل آخر.
ونلاحظ ان هذه الغيبية لا أثر لهاـ تقريباً ـ في العبادات التي تمثل مصلحة اجتماعية كبيرة، تتعارض مع مصلحة الإنسان العابد الشخصية، كما في الجهاد الذي يمثل مصلحة اجتماعية كبيرة تتعارض مع حرص الإنسان المجاهد على حياته ودمه، وكما في الزكاة التي تمثل مصلحة اجتماعية كبيرة تتعارض مع حرص الإنسان المزكي على ماله وثروته. فإن عملية الجهاد مفهومة للمجاهد تماماً، وعملية الزكاة مفهومة عموماً للمزكي، ولا يفقد الجهاد والزكاة بذلك شيئاً من عنصر الاستسلام والانقياد، لأن صعوبة التضحية بالنفس وبالمال هي التي تجعل من إقدام الإنسان على عبادة يضحي فيها بنفسه أو ماله، استسلاماً وانقياداً بدرجة كبيرة جداً. إضافة إلى ان الجهاد والزكاة وما يشبههما من العبادات لا يراد بها الجانب التربوي للفرد فحسب، بل تحقيق المصالح الاجتماعية التي تتكفل بها تلك العبادات، وعلى هذا الأساس نلاحظ ان الغيبية انما تبرز أكثر فأكثر في العبادات التي يغلب عليها الجانب التربوي للفرد كالصلاة والصيام.
وهكذا نستخلص ان الغيبية في العبادة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بدورها التربوي في شد الفرد إلى ربه، وترسيخ صلته بمطلقه.