(يَمْحُو اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعندَهُ أمُّ الكِتاب) .(الرعد / 39)
(إنّ الدّعاء يردّ القضاء، ينقضه كما ينقض السلك، وقد أبرم إبراما).
(ادع الله عزّ وجلّ، ولا تقل إنّ الامر قد فرغ منه).
وفي الحديث عن موضوع الدعاء، وعن الاستجابة وتغيير الامور، ورفع ما قدر، ودفع ما قد يقع من الامور والحوادث التي تحل بالإنسان، من المحن والشدائد، والحوائج، والذنوب . . .الخ .
في الحديث عن ذلك كله، لا بدّ لنا من أن نتحدّث عن علاقة (القضاء والقدر)، وعن علاقة (علم الله وإرادته) بالاستجابة للدعاء، ونبيّن كيف يصّح تغيير الامور ورفعها وإبطالها بعد تقديرها في قضاء الله وتقدير وجودها، وحصولها في علمه، وهل يترتّب على ذلك التغيير نتائج عقيدية تؤدي الى القول بتغيير علم الله، وبطلان قضائه وقدره وفق مشيئة الإنسان ، وبالتالي تغيير مشيئة الله؟
وكيف يغيّر الله الحوادث بعد إبرامها؟
هل كان يجهل ما هو صالح من الامور، ولم تتّضح له إلاّ بعد الدعاء، وشكوى العبد من مرارة البلاء؟ وهو المنزّه عن ذلك .
أو أنّ أفعاله تعوزها الحكمة والاتقان فتأتي مضطربة تحتاج الى تصحيح وتسديد، وهو المنزّه المتعال؟
إن كثيراً من الناس الذين يجهلون حقيقة العلاقة بين قضاء الله وقدره، وعلمه بالامور والحوادث من جهة، وبين تغيّرها من حال إلى أخرى، أو رفعها وإبطالها من جهة أخرى يثيرون زوبعة من الشكوك والغبار حول الدعاء، ويتوهمون تغير علم الله تعالى، وإرادته .
فيكون لله تعالى مع هذا التغيير ـ كما يتصّور هذا الفريق من الناس ـ علمان وإرادتان:
علم وإرادة سابقة على التغيير، وهما اللّذان ثبتا تقدير الشيء على حالته الاولى، وعلم وإرادة حين التغيير، وهما اللّذان أحدثا التغيير، والتبديل الجديد، بعد حالته الاولى .
وهذا يعني بالنتيجة أنّ علم الله سبحانه وإرادته متناقضتان وقاصرتان عن تحقيق خير الوجود، ودقّة نظامه .
ولتصحيح هذا المفهوم، وردِّ هذه الشبهة، لابدّ للانسان المسلم من أن يفهم:
أولاً ـ أنّ تغيير الامور بابدالها، أو رفعها عن الإنسان ، بسبب الدعاء لا يعني تبعية إرادة الله لارادة الإنسان ، ولا يعني بطلان القضاء والقدر، لان تغيّر الحوادث يجري أيضاً وفق قضاء وقدر ناسخ للقضاء والقدر الاول، فهما قضاء وقدر واحد في تقدير الله ومشيئته، وما التعدّد والفاصل الزمني إلاّ أمر مرتبط بذات الحوادث الجارية في عالم الإنسان .
ثانياًـ لا يعني تغيّر الاشياء والحوادث بسبب الدعاء، تغيّر علم الله، ذلك لان الله سبحانه بحكمته ولطفه، ورحمته بعباده، قد جعل بقضائه وقدره أيضاً وسابق علمه دعاء الدّاعي عند، وقبل، وبعد نزول البلاء به، أو انقطاع حوائجه عنه، سبباً لكشف البلاء، أو غفران الذنب، أو قضاء الحاجة .
فسببية الدعاء بهذا الاعتبار جزء من قضاء الله وقدره، وليس خارجاً عنهما أو متعارضاً معهما، أي إنّه حقيقة مقدّرة في قضاء الله لدفع ما قدّر، شأنها في القضاء شأن بقيّة الحقائق التي وقعت على الإنسان ، كالحاجة، والمرض، والمحنة . . . الخ . ولكشف غوامض هذا الموضوع فلنقرأ الآيتين الآتيتين، مشفوعتين بايضاح وتفسير من قبل الحديثين المرويين عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، والآيتان هما:
( . . . ومَن يَتَوكَّل عَلى اللهِ فَهوَ حَسبُهُ إنَّ اللهَ بالغُ أمرِهِ قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلّ شَيء قَدرا).(الطلاق / 3)
( . . . صُنعَ اللهِ الَّذي أتْقَنَ كُلَّ شَيء إنَّهُ خَبيرٌ بِما تَفعَلُون) .(النمل / 88)
ففي الآية الاولى نقف على حقيقة هامّة في قضاء الله وتقديره . فهو سبحانه قد جعل لكل شيء في عالم الموجودات قدراً من الزمان والمكان والوجود والمكوّنات والنتائج والغايات . . . الخ، بما يناسبه ويحقق الحكمة والمصلحة من وجوده، وإنّه سبحانه مدركه، ومحققه، ولا يمكن أن يفوته، أو يعجزه تحقيقه .
والآية الثانية تلقي مزيداً من الضوء على الآية الاولى (صنع الله الذي أتقن كلّ شيء ) فكلّ شيء حسب منطوق الآية هو متقن، وليس هناك من ثغرة، أو نقص، أو عبث، أو جهل، في هذا الوجود .
فحياة الإنسان ، وما يجري عليه من الامور ـ وفق منطوق الآيتين ـ (مقدرة ـ متقنة)، وهي من أمور الله التي يجب أن يحققها بعد أن يثبت صلاحها في علمه وحكمته .
(إنّ الله بالغ أمره) وليس لشيء أن يتمرّد على إردة الله أو مشيئته .
وقد أمدّنا القرآن بشواهد ونماذج واقعية من دعاء الانبياء، واستجابة الدعاء لهم بعد وقوع البلاء بهم، وتغيير الحوادث والوقائع:
(ونُوحاً إذ نَادى مِن قَبلُ فاستَجَبْنا لَهُ فَنجّيْناه وَأهلَهُ مِن الكَرْبِ العَظيم) .(الانبياء ـ 76)
(وأيّوبَ إذ نادى ربَّهُ أنّي مسَّني الضُّرُّ وأنتَ أرْحمُ الرَّاحمين *
فاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِن ضُرٍّ وآتيناه أهلَهُ ومِثْلَهُمْ مَعَهُم رَحمةً من عِندِنا وِذكرى للِعابدين) .(الانبياء / 83 ـ 84)
(وذا النُّون إذ ذَهَبَ مُغاضباً فَظَنَّ أن لَن نَقدِر عليه فَنادى في الظُّلمات أن لا إلهَ إلاَّ أنْتَ سُبحانَكَ إنّي كُنْتُ مِن الظَّالمين * فاسْتَجَبْنا لَهُ وَنجَّيناه مِن الغَمِّ وَكذلِكَ نُنْجِي المُؤمنين) .(الانبياء / 87 ـ 88)
(وزكريّا إذ نادى ربّهُ ربّ لا تذَرني فَرداً وأنت خَيْرُ الوارثين * فاسْتَجَبنا لَهُ وَوَهَبنا لَهُ يحيى وأصْلحنا لَهُ زَوْجَهُ . . .) .(الانبياء / 89 ـ 90)
فهذا العرض القرآني الصريح يكشف لنا بوضوح تام، العلاقة السببية بين الدعاء وتغير الحوادث والوقائع الجارية في دنيا الإنسان . وإنّ كل هذه الحقائق تجري وفق الحقيقة الكبرى التي عبّر عنها الوحي الإلهي بقوله:
( . . . لِكُلّ أجَل كَتابٌ * يَمحُو اللهُ ما يشاءُ ويُثبِتُ وعِندهٌ أمُّ الكِتاب) .(الرعد / 38 ـ 39)
فالله يغير ويبدّل الامور والحوادث بمشيئته، ووفق إرادته وقضاء محكم وترابط التقدير وليس هدماً طارئاً للقضاء والقدر الذي ثبت بحكمة الله ومن غير تقدير، أو علم إلـهي مسبق .
أمّا الحديثان اللّذان يوضّحان أن الدعاء إنما يقع سبباً وفق قضاء الله، لتنفيذ ما أراد الله وقضى بخفي علمه ولطفه، من تغيير الحوادث والوقائع التي ستحدث:
(إذا ألهِمَ أحَدُكُم الدعاءَ عندَ البَلاء فاعلموا أنَّ البَلاء قصير).
(إن الله عزَّ وجلَّ لَيَدفَع بالدعاء الامر الذي علمه إن يدعى له فيستجيب، ولولا ما وفّق العبد من ذلك الدعاء لاصابه منه ما يجثّه من جديد الأرض).
وبالتأمل بنص هذين الحديثين، والتدقيق بهما والوقوف عند العبارات (ألهِم)، (الامر الذي علمه ان يدعى له فيستجيب)، (ولولا ما وفق العبد)، وبالوقوف عند هذه العبارات، نجد أنّ الالهام والتوفيق من الله كانا لسابق علم الله بأنّ العبد سيبتلى وإنّ الله يريد المنّة عليه واللطف به، فقضى بحكمه أن يلهمه الدعاء ويوفقه إلى المسألة بكشف الضرّ عنه، فيكشف عنه ضرّه، ويجيب له طلبه تعبيداً للانسان، وإشعاراً له بحاجته إلى الله سبحانه، وبفضل الله ولطفه به .
وبذا يتّضح لنا انّ علم الله وقضاءه لا يتناقضان مع الدعاء، وانّ التغيّر في الاحداث والوقائع التي تجري على الإنسان إنما تجري وفق علم مسبق بحدوث الشيء وبتغيره، وان هذا التغيير جرى على أساس من قاعدة السببية الجارية على كل حقيقة في عالم الإنسان .
وإن العلم الإلهي والقضاء محيطان بهذا التغيير وسابقان له ولا شيء يكون جديداً أو متعارضاً مع قضاء الله وعلمه.
فالله يعلم بالحوادث، وبتغييرها، وعلى أساس هذا العلم كان القضاء، قضاء بوقوع الحوادث، وقضاء بجعل الدعاء سبباً للتغيير، وقضاء بالتغيير .