قبل أن نجيب على هذا التساؤل ينبغي أن نعرف محيطه، من خلال تعريف العلوم المقصودة في هذا السؤال، وذلك أن لكل علم بعض ما يتميز به في طرق التحصيل والاستقبال، وإن كانت سائر العلوم تلتقي مع بعضها في دوائر كثيرة، ولهذا فإن الإجابة التي ستعرض قد تكون بنسبة ما منطبقة على كل علم، وإن كنت قاصداً منها نوعية خاصة من بين تلك العلوم.
يمكن النظر إلى العلوم من زاويتين تناسباً مع طبيعة العلوم نفسها: الزاوية الأولى العلوم المعلوماتية، وهي تراكم من الحقول العلمية التي ليس لها آثار دينية أو اجتماعية مباشرة، كعلم اللغة العربية والرياضيات والفيزياء وكثير أشباهها.
والزاوية الثانية العلوم الدينية، وهي كل ما له أثر ديني ودنيوي وأخروي ـ أو اجتماعي من تلك العلوم ـ وبذلك تكون دائرة هذه العلوم مستوعبة للعلوم الدينية البحتة، وأيضاً كل ما له أثر ديني أو اجتماعي في سائر العلوم الأخرى، كالشق الذي يتصل بمباحث الربا وتوزيع الثروة والعدالة الاجتماعية في علم الاقتصاد، أو الشق الذي يتعلق بالمحافظة على الحياة الانسانية والنظام في علم الأحياء ـ البيولوجيا ـ أو البعد الذي له علاقة بالسيطرة والحكم والإدارة في علم السياسة وما أشبه ... فكل هذه الشقوق والأبعاد ذات صلة بالدين والمجتمع ولها آثار مباشرة عليهما.
وما يتعلق بالسؤال المطروح ما جاء في الزاوية الثانية، وإن كانت الإجابة عليه لها نوع شمول لما ورد في الزاوية الأولى أيضاً.
إذاً العلوم كثيرة، ولا شك أنها بأجمعها تقع في طريق النهضة الاجتماعية، ولهذا فإننا حين ننادي بالمشروع الديني المتمثل في هذه القيمة العقلية الأول (حب العلم)، فإننا نعني بالعلم سائر العلوم المعلوماتية والدينية، فالمجتمع الناهض هو المجتمع الذي تتفجر في وسطه سائر العلوم، كما هو شأن المجتمع المصغر الذي كوّنه الإمام الصادق (ع) فقد تفجرت فيه علوم دينية كالفقه والعقائد، وعلوم معلوماتية كالكيمياء ...
لكن لأن العلوم المعلوماتية خارجة عن تخصص المؤلف، كان من اللازم التركز على العلوم الدينية، خاصة لما فيها من الشمول والاستيعاب، إذ إن كل إنسان ملزم ولو بصورة نسبية بالإحاطة بها، لأنها وسائط لامتثال تعاليم الدين .. بعكس العلوم المعلوماتية فهي خالية من الإلزام الفعلي للانسان، لأنها تختص بصاحبها المتخصص فيها فقط.
بناءً على ذلك ما هي العلوم الدينية التي ينبغي على كل انسان تعلمها إما كلياً ـ على نحو التخصص ـ أو نسبياً ـ في حدود الضرورة؟
يمكن تفصيل هذه العلوم كما يتضح لنا من خلال الاستقراء للحاجة الدينية، في أربعة فصول أساسية:
الفصل الأول ـ الأسس العقيدية: والتي يمكن الاصطلاح عليها (ضروريات الدين)، فيها يحصل التمايز التام بين المعتقد المسلم وبين المنكر الكافر ...
فهذه الأسس والضروريات ينبغي لكل مسلم التعرف عليها والاعتراف بها على نحو التفصيل لا الإجمال ـ أي على نحو القطع التفصيلي وليس الإجمالي، وإن كان للبعض رأي مغاير في هذا الصد، فقد ذهب الأخوند الخراساني إلى كفاية الإجمالي عند تعذر التفصيلي في مجال الأصول والمعتقدات وليس الفروع، وذلك في سياق رفضه لكفاية الظن فيها ـ الأصول. قال في لواحق بحثه لدليل الانسداد: ((إن الأمر الاعتقادي وإن انسد باب القطع به إلا أن باب الاعتقاد إجمالاً ـ بما هو واقعه ـ والانقياد له وتحمله غير من ... وبالجملة لا موجب مع انسداد بابا لعلم في الاعتقاديات لترتيب الأعمال الجوانحية على الظن فيها مع امكان ترتيبها على ما هو الواقع فيها فلا يتحمل إلا لما هو الواقع ولا ينقاد إلا لا لما هو مظنونه...)).
وعلى كل فسواء وجبت على نحو التفصيل مطلقاً ـ في حال الامكان والتعذر معاً، أم على نحو الإجمال أيضاً ـ في حال التعذر، فإنه يجب تعلمها إما كلياً ـ للتخصص ـ أو نسبياً لغيره.
ويقف على رأس هذه العلوم، التوحيد وتجلياته وما يحمل معه من أسماء الله وصفاته، وقضية الرسل والرسالات خاصة ما يتصل بالرسالة الختمية، وكذلك الامتداد الطبيعي لهذه الرسالة المتمثل في مشروع الإمامة لكونها منصباً إلهياً وليست حكماً فرعياً ... وبالتالي كل ما يتصل بهذه المسائل من موضوعات.
ويمكن ملاحظة هذا الفصل في قوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) الأنبياء/ 25.
(والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون) البقرة/ 4.
(فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا...) التغابن/ 8.
ولعل الحقل العلمي المتكفل ببحث دقائق هذه المسائل هو علم الكلام، وإن كان لغيره ثمة صلة به.
الفصل الثاني: النظريات الكبرى والمفاهيم التفصيلية للدين
وهي عبارة عن تراكم كبير من السنن الإلهية والأنظمة الربانية المتحكمة في مسيرة الحياة عبر التاريخ، التي لا يطرأ عليها التبدل والتحول ... ثم القيم والحكم ـ أو الكلمات كما هو استنتاج السيد محمد تقي المدرسي الأكثر تفصيلاً، والتي ما هي إلا إشعاعات للسنن الإلهية وتجلياتها التفصيلية في مختلف مرافق الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ... وهكذا تليها المجاميع الهائلة من الوصايا والإرشادات الدينية التي تمتلئ بها صفحات القرآن العظيم، الملحوظة في توصيات الخالق جل وعلا إلى أنبيائه، أو في إرشادات الأنبياء والحكماء إلى مجتمعاتهم.
ويمكن رؤية هذا الفصل في عدة آيات قرآنية، منها قوله تعالى:
السنن: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) آل عمران/ 137.
القيم: (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته...) الأعراف/ 158، (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته...) الأنعام/ 115.
الوصايا: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه...) الشورى/ 13.
(ولا تصعّر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحاً...) لقمان/ 18.
ومن المفترض أن يكون الحقل العلمي المناقش لجميع هذه النظريات والمفاهيم، علم القرآن الكريم ـ لا بالمعنى الأخص المنحصر في مفردات كالناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه وغيرها، وإنما بالمعنى الأعم بالشكل الذي يشمل التفسير والتدبر المنطقي والموضوعي، وغير ذلك.
الفصل الثالث: التشريعات في مجالي العبادات والمعاملات:
وهي تنحل في هيئة أحكام تكليفية ـ إلزامية وترخيصية ـ ووضعية.
وتلحظ مثل هذه الأمور في العرض القرآني، في مثل قوله تعالى: (... وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون) البقرة/ 233.
(يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر...) لقمان/ 17.
(ون أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم...) المائدة/ 49.
ويمكن الوقوف على جميع هذه المفردات التشريعية، في خصوص علم الفقه، فهو المتكفل باستيعابها جميعاً.
الفصل الرابع: مناهج النظر والتفكير
وهي عبارة عن السبل والطرق التي تهدي العقل في سعيه نحو الحقائق والأفكار ... وذلك أن الدين حين شرّع لنا أحكاماً من جهة، وأمرنا بالتعقل والتفكير من جهة أخرى، فإنه وضع لنا طرقاً من شأنها قيادة العقل إلى تلك الأحكام، وصيانته من الزلل، وتلك الطرق من قبيل الاستناد إلى اليقين، وعدم إغفال الغيب ... الخ.
وقد عبّرت الآيات القرآنية عن هذه الطرق تارة بالمنهج وتارة بالسبل، كما في قوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) المائدة/ 48.
(وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فنفرق بكم عن سبيله) الأنعام/ 153.
وهذه المناهج والسبل يهتم بمناقشتها علماء الأصول والفلسفة.
هذه الفصول العلمية الأربعة من أهم ما يحتاجه الانسان من زاد علمي في حياته الدينية ... ولكن كيف؟
أما الفصل الأول فالحاجة إليه ذاتية، أي إن التعرف عليه والاعتراف به مطلوب لذاته (لنفسه)، فالواجب بذلك يكون نفسياً لا غيرياً، والوجه في نفسيته هو لكون الله سبحانه وتعالى ـ مثلاً ـ (مستجمعاً لجميع صفات الكمال فيستحق أن يُعرف) ... مع ملاحظة أن هناك مَن أشار إلى غيريته، حين بنى على أن المعرفة واجبة لشكر المنعم أو للأمن من الضرر.
وأما الفصل الثاني فلأن الكثير من المواقف الدينية في الحياة تبتني على المعرفة السليمة بطبيعة حركة الحياة، وعلى فهم رؤى الدين العامة المتجسدة في القيم والوصايا، وليس الخاصة فحسب كالأحكام.
وأما الفصل الثالث فإن معرفة ما فيه من علوم (التشريعات) هو الطريق الوحيد للتعبد الصحيح والامتثال المطلوب، فمن دون معرفة الأحكام لا يمكن امتثال أوامر الدين كما أريدت ... ومن هذا المنطلق اشتهر على ألسن الفقهاء أن العبادات توقيفية، أي لا يجزي بل لا يجوز الإتيان بها إلا بالصورة التي رسمها الشارع المقدس فقط، ولا يمكن التصرف فيها بحال ... وذلك من قبيل قول رسول الله (ص): ((صلوا كما رأيتموني أصلي))، ((خذوا عني مناسككم)).
ولا يتصور هنا أن الأمر مقتصر على العبادات فقط دون المعاملات، لا بل هو يشمل الأخيرة أيضاً ... لكن غاية ما يقال هنا أن العبادات أحكامها من نوع (المحدثة) من قبل الشارع فلا يمكن التصرف فيها، وأما المعاملات فأحكامها من نوع (المقرَّة)، على اعتبار أن المعاملات حياة قائمة لكن الشارع جاء وشذّ بها فأقر بعضها كبيع المعاطاة، وردع عن بعضها الآخر كالربا ... فالمعاملات نعم هي حياة، إلا أنها تستبطن أحكاماً كثيرة بعضها جاء على سبيل الإقرار والبعض الآخر على سبيل الردع، مع ملاحظة أن الإقرار ليس من الضرورة أن يكون فعلياً، وإنما يكتفي فيه بعدم الردع ... وقد اشتهر هذا الأخير على ألسن الفقهاء قديماً وحديثاً، فمثلاً في تقريرهم لحجية الخبر الواحد يستدلون بقيام السيرة العقلائية على العمل به، ثم يؤكدون على ثبوتها حتى على فرض عدم وجود نص واضح يقرها، بعدم صدور ردع واضح عنها من قبل الشارع.
فكما أن العبادات عبارة عن تشريعات توقيفية، كذلك المعاملات تستبطن تشريعات بنوعيها الإلزامية والترخيصية ... ولهذا ورد في الحديث: ((التاجر فاجر حتى يتفقه في الدين)).
وأما الفصل الرابع فلتعذر الوصول إلى الحقائق والأفكار من دونها، ولهذا ورد النهي من الشارع عن اتباع المناهج غير الدينية، كما مر في قوله تعالى: (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله).
بهذا نكون قد حددنا ماهية العلم المقصود في السؤال السابق ... ولكن تبقى الإجابة على السؤال شاغرة ... وهو كيف نحصل على العلم في تلك الفصول الأربعة، أو كيف نتعلمها؟
في الحقيقة هناك خلفيات مهمة وراء طرح هذا التساؤل ... بمعنى أن هذا التساؤل لم يأت من فراغ، وإنما له محفزاته الخاصة.
تتلخص هذه المحفزات، في كثرة حدوث الاشتباه بين العلم واللاعلم عند المحصل، إذ ليس كل ما في الساحة من أفكار وإثارات يعد علماً، فبعضه علم وبعضه الآخر لا علم ... ما يعني أن المحصل للعلم لابد أن يعرف كيف يميز بينها حتى لا يتحول عقله على جامع للتناقضات.
ويضاف إلى ذلك إشكالية أخرى لا تقل أهمية عن هذه، تتعلق بكيفية تراكم العلم عند الانسان المحصل، فهناك من المحصلين للعلم مَن يعتمد المتابعة الشخصية المجردة المصطلح عليها (التثقيف الذاتي)، باعتقاد أن هذه الطريقة كفيلة بإعطاء الانسان كل ما يحتاج من معارف وعلوم ... وهناك مَن يعتمد على مجرد المحاكاة اليومية خصوصاً إذا كان يعيش في وسط علمي، فيعتمد على النقولات والمسموعات والأفكار السريعة، بزعم أنها، بمجموعها تشكل علماً ... وهكذا.
وفي تصوري أن المحصل ينبغي أن ينتبه لمثل هذه المسائل، ولا يعتمد أي طريقة في تحصيل العلم ـ الديني على وجه الخصوص ـ لأن العبرة بالنتائج والمؤديات، فإذا لم يدقق المحصل في أخذ العلم، فإنه معرّض للوقوع في مشاكل علمية قد تكون خطيرة جداً في المستقبل، وعندها يصعب عليه إذا تراكمت لديه المعارف التدقيق والمراجعة خاصة أنه جبل على اعتماد طريقة معينة، واقتنع مسبقاً بأفكار كثيرة شكلت بأجمعها أساساً لتلك المخاطر ... وليس من السهولة إحصاء كل الأفكار الواصلة إلى ذهن الانسان ومراجعتها بعد عمر من وصولها ...
لهذا لابد من التدقيق من الوهلة الأولى في طرق تحصيل المعارف والعلوم، فما هي المقدمات الأساسية الواجب مراعاتها في مسيرة التحصيل العلمي ضمن البعد المشار إليه ... وهو نفس سؤالنا السابق (كيف نتعلم العلم؟).
إن تعلم العلم يفتقر إلى مقدمات وشروط كثيرة، لن نتعرض لها جميعاً، لأن الكثير منها وإن كان مهماً لا يصح التغافل عنه، إلا أنه يرتبط بالهدف الذي عقدت له هذه الدراسة ... ومعنى ذلك أنني سأكتفي باستعراض المقدمات التي لها تماس جوهري بهذه الدراسة، وهي تتأكد في أربع مقدمات.
المقدمة الأولى: معرفة مميزات العلم
فالعلم ليس كل ما يسمعه الانسان من تصورات وأفكار، والعالم ليس هو المحتضن لتلك التصورات، ولو كان العلم كذلك لما وصف القرآن الكريم الكثير من الناس بالجهلة، مع أن فيهم مَن يُنظر إليه بصفته عالماً ... كما قال تعالى: (قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون) يوسف/ 89.
مع أن أخوة يوسف (ع) ما كانوا جاهلين بمعنى نقص المعلومات، بل إن بعضهم كان على درجة من العلم ككبيرهم ـ كما يظهر من العديد من الروايات المفسرة للآيات من سورة يوسف ـ ولكن جهلهم يشير إلى نقص علمي آخر.
ويقول تعالى: (أأنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أتنم قوم تجهلون) النمل/ 55.
فقد وصفتهم الآية بالجهل بأجمعهم ولن تستثن منهم أحداً، مع أن قوم لوط لم يكونوا جميعاً أميين وإنما كان فيهم مَن يمكن اضافة العلم له.
فالآيات القرآنية أضافت الجهل إلى بعض الشعوب مع وجود بعض المتسمين بالعلم ... وفي بعض الأحيان لا تصف الآيات أحداً بالجهل وإنما تسلب منهم صفة العلم، كما في قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون) الجاثية/ 18.
إن الذين ضغطوا على رسول الله (ص) ووقفوا ضده وسعوا لحرف رسالته الاسلامية، لم يكونوا بأجمعهم جهلة بالمعنى المصطلح، ففيهم الرهبان والقساوسة من اليهود والنصارى، مع ذلك الآية المباركة تسلب منهم صفة العلم.
فوصف مَن ينظر إليه بصفته عالماً بالجهل، وسلب صفة العلم عن أمثاله أيضاً، يشير إلى أن للعلم مميزات خاصة ... وهذه المميزات يمكن تشخيصها من خلال الفصل بين المفارقات التالية:
بين العلم والمعلومة: إن الإنسان المحصل تطرق مسامعه الكثير من المعلومات بين الحين والآخر، لكن هذه المعلومات لا يمكن أن تعتبر علماً لعدم وجود الراطب بينها، وعدم التحقق من صدقها وكذبها، إذ من المتعسر على الانسان تمحيص كل معلومة تصل إليه ... فما دامت تلك المعلومات متناثرة لا يجمعها جامع، وغير متحقق من دقتها، فلا يمكن وصفها بالعلم ...
فالعلم إنما هو الثوابت والأصول الجامعة لسائر الأفكار المتناثرة ... ويمكن ملاحظة ذلك جلياً في دائرة علم السياسة مثلاً، ففيها المعلومة المجردة وفيها الفكرة والنظرية ... فالمعرفة ببعض مفردات التاريخ السياسي للدول، وبعض مفردات الجغرافيا السياسية المعاصرة، وبعض القوانين الرائجة، وأسماء بعض الرؤساء والوزراء، كل هذه الأمور تعد من قبيل المعلومة المجردة، أما العلم فهو النظرية المستمدة قوتها من كل ذلك التراكم من المعلومات.
وهذا الفارق يمكن ملاحظته في الأشخاص كثيراً، حيث يمر عليك أحياناً مَن تراه مشحوناً بالمعلومات السياسية لا يتوقف من عرضها، لكنه ساذج على مستوى النظرية، لأنه غير قادر على استنباط فكرة من كل تلك المعلومات المتناثرة ... بينما يمر عليك أحياناً أخرى من تندر لديه المعلومات لكنه صاحب نظرية، ويمكن التمثيل لذلك بالدكتور اسماعيل صبري مقلد، فمن يقرأ كتابيه (الاستراتيجية والسياسية الدولية) و(العلاقات السياسية الدولية دراسة في الأصول والنظريات)، وبعض دراساته في الدوريات الكويتية يكتشف مباشرة أنه رجل حامل لنظرية، لا مجرد معلومات متفرقة.
كما يمكن ملاحظة هذا الأمر في علم الأدب، إذ فرق فيه بين المفردة البليغة والمعرفة ببعض الالسنيات الحديثة، وبين النضج الأدبي ... فليس كل مَن شحن كلامه بالمفردات الأدبية وأظهر المعرفة بالنظريات، (كالبنيوية والسيميائية) يصح اعتباره أديباً، ويُصنّف في سلسلة واحدة مع (كولن ولسون) أو (ماركيز) وأمثالهما ... فالأديب الناضج هو صاحب النظرية القادر على استخدامها في فنه بلا تكلف ... وهذا هو السر الذي يجعل كتابات عمالقة الأدب سهلة المنال سريعة الفهم، بينما تكون النقودات الأدبية لآخرين ـ المبتدئين خصوصاً ـ بمسيرة الفهم، لأن الأول يكتب بلا تكلف، بينما الآخر ليس لديه غير التكلف والتصنع.
هذه المفارقة هي تماماً ما يمكن استنتاجه في خصوص العلوم الدينية أيضاً، حيث يفرق فيها بين حفظ بعض الآيات والروايات، ومعرفة بعض النظريات العامة والقواعد الأصولية والمفاهيم الفلسفية، وبين القدرة على تكوين النظرية المستوحاة من كل تلك المعلومات المتفرقة ... ولهذا يمكن التفريق بسهولة بين مَن يحفظ أكبر قدر ممكن من المسائل الفقهية المجردة من غير قدرة على الجمع بينها، وبين الفقيه القادر على استخلاص النظرية منها حتى وإن توقف عند بعض المسائل الجزئية.
هذا هو الفرق بين العلم والمعلومة ... فالعلم لسي مجرد الاطلاع على كمّ هائل من المعلومات، وإنما القدرة على تحصيل النظرية التي تشكل ثابتاً في حياة الانسان المحصل.
بين العلم والإثارة: الإثارة تختلف عن المعلومة، وذلك لما بينهما من نسبة العموم والخصوص المطلق، فكل إثارة معلومة، لكن ليس كل إثارة معلومة على نحو الحتم ... وما يهمنا هنا هو ثبوت الإثارة.
الإثارة إما مشكلة فكرية تحوم حول قناعات الانسان الثابتة لتحيولها من الطلاق إلى النسبية أو رفضها حتى ... وأما فكرة جديدة لا تزال في دائرة التساؤل والمناقشة .. وكلا هذين الأمرين يشيران إلى أنها قابلة للثبوت والرفض في آن، أي بد لم تتحول إلى نظرية ثابتة، فهي مجرد فكرة هائمة وغير مستقرة.
أما العلم فهو أفكار ثابتة ومستقرة لا أقل عند حاملها ـ بينما الإثارة غير مستقرة حتى عند حاملها ـ وإن كان الكل يرفضها.
بناء على ذلك فإن مجموع الإثارات لا تشكل علماً، لأنها لم تتحول إلى قناعة راسخة، بل قد تكون عاملاً أساسياً في هزّ مسلمات الانسان ... نعم يمكن أن تتحول علماً إذا أجيب عليها، أما مجرد الالتهاء بها فإنه لا يشكل علماً.
ويتجلى هذا الأمر كثيراً خاصة في الأوساط الثقافية، حيث نجد إنساناً يطلق من لسانه إثارة تلو إثارة في فترة وجيزة، لكن من دون أن يملك إجابة على واحدة منها، بينما تجد آخر تندر لديه الإثارة، لكن عقله مليء بالأجوبة والنظريات الثابتة التي استوحاها هو من خلال عمله الثقافي ... فالعالم هو الثاني، أما الأول فيصعب تسميته بالعالم لعدم قدرته على وضع الأجوبة، بل قد تكون حتى قناعاته ومسلماته مهزوزة بسبب كثرة الإثارات الحائرة.
فالعلم بذلك يكون قناعات ثابتة وليس مجرد إثارات متكاثرة وحائرة.
بين العلم والمشكوك: والمشكوك قد يكون بينه وبين المعلومة ما كان بين المعلومة والإثارة من نسبة ... كما أن بينه وبين الإثارة أيضاً ذات النسبة، نسبة العموم والخصوص المطلق، إذ إن كل مشكوك إثارة، لكن ليس كل إثارة شكاً على نحو الضرورة.
فالمشكوك هو عبارة عن الفكرة التشكيكية التي تهتم بهز عقيدة الانسان في مسلماته، بدون أن تضع حلاً وإجابة لا لذاتها ـ قبولاً ـ ولا لتلك المسلمات ـ رفضاً ـ كم أنها تشمل التصورات الشكية في عقائد وتصورات الغير، لأنها تجعل الانسان غير رافض لما لا يعتقد، مما يعني بالنتيجة، أنه أيضاً مشكك فيما يعتقد ...
بينما العلم هو عبارة عن تراكم من اليقينيات والثوابت، أو لا أقل مؤديات للظنون الخاصة المعتبرة شرعاً ـ وهي وإن لم تكن يقيناً بمعنى العلم الوجداني إلا أنها كذلك بمعنى العلم التعبدي وهو أيضاً لا يجوز للانسان تركه ...
لهذا فلو أن إنساناً ملأ عقله بالتشكيكات من دون أن يجد لها حلاً، يصعب عده من أهل العلم، لأنه غير مقتنع بشيء حتى يكون عالماً به، فهو حامل للشك فقط وليس حاملاً للعلم ... في حين أن العالم على النقيض من ذلك تماماً، فهو يسمع التشكيكات لكنه غير حامل لها، إنه يحمل العلم المتمثل في الثوابت واليقينيات الطاردة بطبيعتها لكل الشكوك ... نعم قد يحول الشك إلى تساؤل علمي ويجيب عليه، فيرفضه أو يقبله.
فالشك ليس علماً، وإنما هو مجرد فكرة سلبية ـ وهذا وجه اختلافه الجذري مع مطلق الإثارة لأن الإثارة لا تفتعل السلبية أما الشك فهو قائم على السلبية أساساً ـ غير مستقرة رفضاً ولا قبولاً، والعلم بخلافه فهو فكرة ايجابية مستقرة قبولاً أو فكرة سلبية مستقرة رفضاً.
هذه هي المميزات الأساسية للعلم، ومَن يريد أن يتعلم العلم لابد أن يقف على هذه المفارقات ويميز بينها، ليعرف أي شيء يتعلم، فهو ينبغي أن يتعلم العلم لا المعلومة ولا الإثارة ولا التشكيك ... نعم قد تكون كل تلك واقعة في بعض الأحيان في طريق تعلم العلم، لكن ليس لمجرد المرور عليها وإنما للإجابة عليها ـ كما في الإثارة والمشكوك ـ أو لربطها بأصولها ـ كما في المعلومة.
من كل ذلك نستخلص بأن العلم هو عبارة عن المعرفة بالأصول والمباني الدينية الكبرى والصغرى، التي يمكن أن تكون ميزاناً لسائر الأفكار والمسموعات أي التي ترد إليها الأفكار وتوزن بها ... لهذا فالعالم يعرف بما لديه من مبان وأصول فكرية، وليس بما يحمل من معلومات وإثارات.
هكذا ينبغي أن نتعلم العلم ... ومَن يتعلم العلم حسب هذا التمييز يكون عقله متسماً بالنضج والحكمة، بخلاف الآخر فإنه لن يكون إلا ذا عقل غير مستقر.
المقدمة الثانية: محاكاة العلم داخلياً
مَن يريد العلم لابد أن يقرأ العلم نفسه، لا ما قيل عنه، وهذا ما عنيتُ بالمحاكاة الداخلية للعلم، فالعلم حتى يؤخذ سليماً ينبغي قراءته من الداخل ـ من داخله ـ وليس من خلال الاقتصار على الوسائط الخارجية، لأن الواسطة إذا كانت بعيدة عن روح العلم نفسه، يصعب عليها التحدث بلسانه، فتعرضه في صورة مشوهة وغير مدركة لدقائقه.
لهذا نجد العديد من المفكرين المنصفين الذين يحترمون العلم، إلى التأكيد على ضرورة فهم الأدوات الخاصة بكل علم وعلى رأسها العلوم الدينية، قبل المباشرة بالتفكير في مواد تلك العلوم ...
يقول محمد أركون في دراسة له أعدت خصيصاً لنقد العقل الاستدلالي الرائج في وسط المفكرين المسلمين ـ ما يعني أن المنتظر منه لم يكن سوى تجاوز كل الأدوات التقليدية الخاصة بالعلوم الدينية، لكن ما صدر منه كان خلفا ذلك تماماً ـ يقول ((من الطبيعي أن ينرفز العلماء عندما يستخدم المرء النصوص المقدسة والتراث الموروث بشكل خاطئ أو عندما يتلاعب بها وبه بشكل تعسفي. ولهذا ينبغي على المفكر المسلم الحديث أن يحتاط لنفسه جيداً ويجهز نفسه علمياً بشكل لا غبار عليه فيطلع على كل ما يخفى معرفة النصوص القديمة أو الشروط التقنية للاجتهاد الكلاسيكي. ينبغي أن يمتلك كل ذلك أولاً، فلا يعتبره تحصيل حاصل، أو شيئاً تراثياً لا قيمة له، ذلك أن الانتقال من مرحلة الاجتهاد الكلاسيكي إلى مرحلة نقد العقل الاسلامي، فينبغي أن يصمم ويصور على أساس أنه امتداد للاجتهاد الكلاسيكي وإنضاج له)).
من هذا المنطلق ـ وكما يقول أركون ـ نجد كثيراً ما يوجه أهل الاختصاص ـ في أي علم كان ـ احتجاجات علمية وفنية على مَن يخوض في حقولهم الاختصاصية، من دون أن يتزود بالكم الكافي من خواص تلك الاختصاصات، أي من دون أن يطلع على العلم من داخله، فنجد مثلاً كيف يعمد ابن رشد على رد إشكالات الغزالي الفلسفية، فقد كانت عمدة الردود التي توسل بها ابن رشد ادعاء أن الغزالي لم يقرأ الفلسفة كما ينبغي لأي فيلسوف، وإنما قرأها قراءة سطحية، ومن خلال ألسن خارجية ...
فقد ادعى ابن رشد على الغزالي أنه لم يقرأ الفلسفة الأرسطية ـ التي ينقدها ـ بصورة صحيحة فهو قرأ أرسطو عبر واسطة خارجية وهو ابن سينا، ولم يقرأ أرسطو نفسه، ولهذا أساء الفهم وضل الطريق ... فابن رشد بعد أن أشكل على الغزالي من جهة أنه لم يهضم الفلسفة حقيقة، قال: ((وسبب ذلك أنه لم ينظر الرجل ـ يعني الغزالي ـ إلا في كتب ابن سينا، فلحقه القصور في الحكم من هذه الجهة)).
وهذا هو أيضاً من قرأ الاسلام بواسطة العقلية الاستشراقية، فالمستشرق ـ حتى وإن كان منصفاً وباحثاً مجرداً ـ فإنه يبقى عقلية خارجية، من المتعذر عليه الإدراك التام لجوهر الاسلام والرسالة الاسلامية، ولهذا لا يمكن أن يعرض الاسلام بتاريخه وقوانينه وأحكامه عرضاً صحيحاً، وإنما لابد أن يشوب بعض نظراته شيء من التشويه والاضطراب ... ومَن يأخذ الاسلام من لسان المستشرق لا يمكن أن يأخذه غضاً ...
وقد كان هذا التقرير من المآخذ الأساسية التي أخذت على (طه حسين) في كتابه (في الشعر الجاهلي) حيث ادعى الكثير من النقاد المعاصرين لطه حسين بأنه أساء للتراث الأدبي العربي بدعوى ((أنه قرأ الأدب العربي وهو في فرنسا من خلال قلم المستشرق (مرجليوث) الذي نفى وجود أي أثر للشعر العربي في العصر الجاهلي في كتابه (في الأدب العربي) ... ونسبوا إليه ـ طه حسين ـ إنه بعد أن قرأ كتاب (في الأدب العربي) تأثر بما فيه وبمجرد أن عاد إلى مصر شرع في تأليف كتابه وكرر ما أتى به مرجليوث)).
إن وقوع الكثير من الباحثين والنقاد في الاشتباه والخطأ، أحد أسبابه الأساسية عدم القراءة الصحيحة للعلم المبحوث، حيث يقرأ خارجاً، في حين القراءة الصحيحة لابد أن تكون من داخل العلم نفسه ... بذلك فإن مَن يريد تحصيل العلم ينبغي له مراعاة هذه المقدمة بدقة والتأكد من توفرها في مسيرته التحصيلية.
المقدمة الثالثة: الالتصاق بأهل الخبرة
إن كل علم له روحه الخاصة به، وهذه الروح لا يكشف حقيقتها إلا الخبير المختص بالعلم نفسه ... فهو من خلال قربه من العلم وكثرة استخدامه لأدواته والطول الزمني في التعاطي معه، تنكشف له ألغاز ذلك الحقل من العلم، وتتضح له دقائقه ... وهذا أمر واضح لكل متابع للحركة العلمية، حيث إنه يجد فارقاً واضحاً بين السياسي المتمرس، وبين المراقب السطحي ... وكذلك بين الفيلسوف وغيره ... وهكذا.
لهذا لو يتدخل غير المختص ويسعى للتنظير في خصوص مادة علمية لا اختصاص له فيها، مستعيناً فقط بمتابعاته العامة، فإنه بلا شك لن يوفق لإحراز نتائج علمية ذات قيمة، وإن تصور أنه قدم إبداعاً ... ولعل من يصح الإشكال عليهم في هذا المجال، الكاتب المشهور الدكتور محمد عابد الجابري، فهو إذا كتب في اختصاصه ـ الفلسفة ـ يقدم نتائج علمية تستحق التقدير ـ وإن خالفته فيها، لكنه إذا تدخل في غير اختصاصه منظراً، لا يسعك إلا التعجب من منهجيته واستنتاجاته، كما فعل حين سعى لمناقشة بعض مواد علم الأصول في كتابه (بنية العقل العربي) ... فكل مَن يقرأ له تلك المناقشة يشعر مباشرة بأن الكاتب غير مختص، لبساطة الطرح والإشكال والإجابة والمناقشة، وإن كان الأسلوب الكتابي يعد من النوع الممتاز.
فمجالات الضعف عند غير المختص والتي لا تتضح إلا للمختص ـ إذا عمد إلى مراقبة كتابات غيره ـ تتركز في عدم تسلطه التام على روح العلم وعدم معرفته لاستخدام أدواته بشكل صحيح.
ويمكن التمثيل على ذلك بنقد ممتاز قدّمه الدكتور أسامة خليل المتخصص في الشأن الفلسفي ورئيس تحرير مجلة (أصول الفكر والعمل)، على كتاب (العالمية الاسلامية الثانية) لمحمد أبوالقاسم حاج حمد ... فقد أشكل على المؤلف من جهة عدم دقته في استخدام المفاهيم الفلسفية ـ وهذا نوع من إشكال الخبير على غيره، وذلك في قوله: ((أما فيما يتعلق بالخصائص الفكرية للحضارة الغربية، فنحن نستميحه عذراً، وذلك أن استخدامه للمفاهيم الفلسفية يحتاج إلى كثير من التدقيق والتحديد، إذ يجدر بنا الفهم أمام كثير من التركيبات التي قد يفهمها غير المتخصص لكن لا يجوز استعمالها على مستوى النقد والتحليل الفلسفي. فلا يجوز مثلاً الجمع بين (المادي والمجرد) فلسفياً وإن كان المقصود واضحاً لا غموض فيه حين يتحدث عن ((التحول بالكون من معناه الانساني إلى معناه المادي المجرد)). هذا هو الحال أيضاً حين يقارن فهمه وعلمه بفهم السلف ويستخدم تعبير (العقل المحض) وهو تعبير كانطي بحت! ((فهم قد أنتجوا بقوة العقل المحض ونحن ننتج بقوة العقل زائداً محددات العلم النظرية والمعرفية)).
إن هذا الغموض ـ والذي قد يثبظ همة القارئ المتخصص ـ ربما يكون من أسبابه ذلك التداخل بين مستويات التحليل العلمي والنظري والتحليل الحضاري والسياسي ... )).
فلأن كل علم له أدواته الخاصة، وبالتالي روحه الخاصة التي تشكل قوته الحقيقية والحل لكل ألغازه، فلابد للمحصل أن يستخبر عن تلك الروح من أصحابها وهم أهل الخبرة ... فيتعلم منهم الأدوات وكيفية استخدامها ونوعية الاستثناءات الداخلة والخارجة ... أي يتعلم منهم العلم وتطبيق العلم ... كما يحصل تماماً في المنهج العلمي المتبع في الحوزات العلمية الشيعية المصطلح عليه (البحث الخارج) حيث يقوم المباحث ـ الأستاذ ـ بعرض النظرية المتبناة من قبله، وكيفية التوصل إليها، مع مناقشة لسائر الآراء والنظريات المعاكسة، وأما المباحث ـ الطالب ـ فإنه لا يكتفي بالاستماع وإنما يسعى لافتعال الإشكالات على أستاذه لمعرفة جهة الصح من الخطأ فيها ...
بناء على ذلك فإنه يُعد من أولى أهداف هذا المنهج (تدريب الطالب عملياً على كيفية استخدام أدوات العلم. فمع أن كل المواد التي تطرح في هذا الدرس لا شك أنها مرت على الطالب أثناء تحصيله، إلا أن مرورها لا يعدو كونه نظرياً، لهذا فهو يحتاج إلى تعلم كيفية الممارسة العملية، يتعلم من أستاذه من خلال استماعه له ومن خلال مناقشته ونقده له، كيف ومتى يورد الأداة العلمية الشرعية أو العقلية أو العرفية وأيهما الأخرى...).
هكذا يكون دور الخبير ... فلأنه العارف الدقيق بأصول العلم المختص به، والمكتشف لروحه من خلال تمرسه الطويل، وأيضاً الفاهم لنوعية الاستثناءات التي يمكن دخولها أو خروجها أثناء التطبيق ... فلأنه كذلك فهو الأقدر على كشف ألغاز علمه إلى غيره ...
ولهذا فقد نصح بعض العلماء المختصين بضرورة اعتماد الخبير في التحصيل العلمي، كما ظهر ذلك في كتاب (نصيحة إلى عالم شاب) لميداور، حيث نصح الشبان ((بأن يختاروا مسألة مهمة وأن يتعلموا مهنة البحث على يد عالم ناضج)).
إن الخبير يقدم للمحصل روح العلم، أما غيره فلا يقدم سوى معلومات عامة قد لا تكون ذات معنى بالنسبة للمختص ... وهذا هو السر في إكثار غير المختص من الإشكالات، كما هو ملاحظ في العديد من الأوساط الثقافية ...
فغير المختص عادة ما يكون مكثراً من الانتقادات، التي قد تصل في بعض الأحيان إلى نسف العلم كله، وما السبب في ذلك إلا لأن معرفته بأصول ما لا اختصاص له فيه زهيدة جداً ... بعكس الخبير المختص، فإنه لا يولي أهمية لمثل تلك الانتقادات لأنها محلولة مسبقاً في ذهنه، وهو أعرف بجمعها وما إذا كانت فعلاً إشكالات حقيقية أو مجرد توهمات نقدية مجاب عنها في داخل العلم.
المقدمة الرابعة: التفرغ الزمني
إن أبواب العلم ـ أي علم ـ واسعة جداً ولا سيما العلم الدينين فهو ذو تعريفات كثيرة بالذات في الإطار الفقهي، حيث تتزاحم مسائله لدرجة يصعب حتى على الفقيه المتمرس استحضار جميع المسائل في آن ... لهذا يرى البعض أنه ((من النادر جداً وجود فقيه مجتهد بالفعل في جميع مسائل الفقه، نعم الفقيه هو مَن يملك قوة استنباط قريبة من الفعلية، بحيث لو اعترضته مسألة ما لا يصعب عليه إخراجها ... ومن ذاك ما شاهدناه فعلاً عند بعض الفقهاء الذين بلغوا من العمر ثمانين سنة وهم ملاصقون للعمل الفقهي، ومع ذلك نجدهم يتوقفون عند بعض المسائل أو يقولون لا نعلم)).
فأبواب هذه العلوم واسعة جداً، ومع ذلك لا يمكن التجزؤ فيها، إذ الحسم في أي مفردة منها مهما صغرت يفتقر إلى معرفة شاملة بكل تلك الأبواب، ولهذا اشتهر فتوائياً القول باشتراط الاطلاق في المجتهد وعدم كفاية الاجتهاد التجزئي ـ وإن كان جمع من الفقهاء أشكلوا على هذا الاشتراط صناعةً في مقام الاستدلال.
والمقصود منن الاطلاق والتجزؤ، هو أن المجتهد المطلق مَن كان له ملكة مطلقة سيالة في جميع أبواب الفقه بحيث يتمكن من استنباط أي حكم في أي باب من الفقه من مداركها، وليس المقصود بالمجتهد المطلق مَن كان مستحضراً لجميع المسائل الشرعية كلها حتى يستشكل بعدم إمكان ذلك لغير المعصوم (ع) فضلاً عن وقوعه)).
أما الاجتهاد التجزئي فهو ((عبارة عن تمكن الانسان من استنباط بعض الأحكام دون بعض، مثلاً أن أبواب الفقه مختلفة مدركاً، والمدارك مختلفة سهولة وصعوبة، فرب شخص ضالع في النقليات دون العقليات وكذلك العكس، وهذا يمكن له الاستنباط في بعضها دون بعض)).
فالعلم الذي له أبواب ومفردات بهذه السعة، ويُشكَل فيه الاكتفاء بالأبعاض، لا شك أنه يحتاج إلى زمن طويل وتفرغ من المحصل مع الجد والاجتهاد، لعله يتمكن من إبداء الرأي فيه ... أما الاكتفاء ببعض التقطيعات الزمنية والالتهاء ببعض الكتابات السريعة، فإنه لا يمكن المحصل من السيطرة على العلم ... ويمكن الادعاء هنا أن جزءاً لا يستهان به من المشاكل العلمية المنتشرة، مردّه إلى هذا الأمر، حيث التسرع في الاستنتاج وعدم إيلاء التحصيل الزمن الكافي الذي يتطلبه.
هنا أربع مقدمات ينبغي مراعاتها بجد، عند كل راغب للتحصيل العلمي، أنّى كان نوع العلم، وعلم الدين على رأس القائمة ... وهكذا يفترض أن (نتعلم العلم).