العصبية مأخوذة في اللغة من (العَصْبِ) وهو: الطَّي والشَّد. وعَصَبَ الشيء يَعْصِبُه عَصْبَاً: طواه ولواه، وقيل: شدَّه. والتَّعَصُّب: المحاماة والمدافعة. والعُصْبَة والعِصَابة: الجماعة. ومنه {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} الآية، ومنه حديث (إنْ َتهْلِكْ هَذِه الْعِصَابَةُ).
أما في الاصطلاح فجاء في لسان العرب: هي-أي العصبية-: (أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم، على من يناوئهم ظالمين كانوا أومظلومين، وعرفها بعضهم بأنها: (رابطة اجتماعية سيكولوجية، شعورية ولا شـعـوريـة معاً، تربـط أفـراد جماعـة ما، قائمة على القرابة، ربطاً مستمراً يبرز ويشتد عندما يكون هناك خطر يهدد أولئك الأفراد كأفراد أو كجماعة.
وبعيدا عن العصبية في تعريفها اللغوي والاصطلاحي، وفي محاولة لكشف اللثام عن هذه الأفة الخطيرة التي تصيب مجتمعنا العربي والإسلامي فتعيث به تشتتا وتمزيقا، وترهقه ضعفا وهوانا وانهزاما،والتي تكاد تنسحب بشكل هرمي تنازلي لتصيب المكونات الإجتماعية،بعد أن أنتشرت بخبث في الأنظمة والحكومات ومواقع السلطة والقرار، حتى انها سرت لتصيب العمل السياسي والحزبي والإجتماعي والثقافي ككل، وأصبحت سياسة حاكمة ومنطلقا لكل موقف أو فعل. إن خطر العصبية الحقيقي والذي لا بد من التنبه اليه ومعالجته، عندما تتحول هذه الأفة الى سياسة يومية أو أسلوب في التعاطي، وعندما ينطلق الانسان المتعصب من عقدة الفوقية أو النرجسية في تقييمه للآخر أو الحكم عليه هذا من جهة، ومن جهة أخرى عندما يتحول التعصب الى قناع أو حجاب يمنع من رؤية الأخر او القبول به أو الإعتراف بوجوده، ولعلنا نجد لهذه الآثار السلبية لمرض العصبية حيزا كبيرا في عالمنا العربي والاسلامي، من خلال اللغة المحكية أو المقروءة التي تطالعنا بها الصحف اليومية أو القنوات الفضائية التي تتحفنا ببرامج السب والشتيمة والإلغاء والتكفير، مما يجعلنا مهزلة في عالم يتغنى اليوم بالديموقراطية وان كان في أحيان كثيرة بعيدا جدا عنها.
إن روح الاسلام السمحاء قامت على أساس التواضع والانفتاح والاعتراف بالأخر والايمان بمبدأ الحوار، حتى مع من تختلف معه عقائديا أو سياسيا أو ثقافيا، ولقد كان الإسلام واضحا في نبذه للعصبية على لسان النبي الأكرم (ص): "من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع اعراب الجاهلية".
وعنه (ص) : "من تعصّب أو تُعصب له فقد خلع ربق الإيمان من عنقه ".
من هنا فانه تقع على المسلمين بالدرجة الأولى مسؤولية نبذ العصبية في الفكر والممارسة في ما بينهم أولا، لأن ما نشهده اليوم من واقع مزر ينبئ بكارثة قادمة تعيدنا الى زمن الاقتتال المذهبي المفتوح على أسوأ الاحتمالات والنتائج. اننا بحاجة الى تعميق لغة الانفتاح على الأخر وعدم التصنم والإستعلاء والإحتكام الى منطق المحاورة العلمية الهادفة والمنتجة، اننا مدعوون كمسلمين الى نبذ لغة التكفير في ما بيننا والى تعمييم ثقافة التسامح والتواضع في مجتمعاتنا كافة.
من هنا فان إطلاق ورشة اصلاح عامة تستهدف مؤسساتنا الثقافية والإعلامية والسياسية يعتبر أمرا في غاية الأهمية، كما لا بد من حملة توعية مركزة تستهدف الطبقة الإجتماعية الشعبية المتلقية، والتي غالبا ما تستفزها الحماسة وشعارات التجييش واللعب على الوتر العاطفي، لا بد من تطوير الوعي الديني والسياسي للشعوب المسلمة بحيث يستطيع المسلم أن يحدد خياراته ومواقفه واتجاهاته من خلال وعيه ودراسته ومقارنته وفهمه وتحليله لما يعترضه من أحداث ومواقف، كما لا بد من فرض رقابة على المنبر الدعوي الذي نراه ولبالغ الأسى قد تحول الى بوق حربي أو منصة لإطلاق التهم النابية ولتسعير العصبيات القبلية بين أبناء الدين الواحد.
كما اننا بحاجة الى اعادة ترتيب العمل السياسي والحزبي والنقابي والاجتماعي وبنائه على أسس حضارية وديموقراطية تسمح بالتنوع وابداء الرأي وتداول السلطة، وتلغي الصنمية والإستنساخ والتوارث، وتنفتح على المستقبل بعد الإستفادة من تجارب الماضي، وتؤكد على قيمة العلم والمعرفة وتلغي الموروثات القبلية البالية، وتنطلق من القواسم المشتركة مع الآخر، وتطور لغة التواصل معه.
ما أحوجنا الى الهدوء والتأمل وإعادة بناء الذات وأنسنتها، والى عقلنة مواقفنا وسياساتنا..