إن التصوف ظاهرة روحية عالمية، طالما كان هناك دين يقدس وطقوس تؤدى، فالتصوف _أو ما يقوم مقامه في الثقافات الاخرى _ ما هو إلا تعميق للتجربة الروحية التي يسلكها الانسان المتدين.
إن المصادر الشيعية تحاول وصل التصوف بالتشيع اعتزازا، بينما تحاول المصادر السنية المعادية للتصوف ربطه بالتشيع أو بأحدى الفرق الباطنية استهجانا، وأن تجعل منبته الكوفة التي منها نشأت _في رأي خصوم الشيعة _ الاهواء والبدع لكثرة ما كان فيها من ملل ونحل.
ولقد شغل البحث في مصادر التصوف جزءاً كبيراً من الدراسات الحديثة سواء بالنسبة للمستشرقين أو الباحثين المسلمين. وثمة ظاهرة هامة يمكن أن نستشفها من بين كل تلك الدراسات، ألا وهي صعوبة الفصل بين "دراسة التصوف" و "الموقف" من التصوف. فمن أراده غريبا عن الاسلام حاول رده الى مصدر أجنبي: هندي أو فارسي أو مسحي أو يوناني، من تعاطف مع التصوف وتبنى قضاياه التمس له أصلا اسلاميا في القرآن والسنة وسيرة كبار الصحابة. وهكذا اقترنت معظم الابحاث في التصوف بموقف منه تأييد أو ادانة ، ويبلغ هذا الموقف حدته في الاستقطاب وذروته من التنافر بين المولاة التي تبلغ درجة التقديس، والادانة التي تصل الى حد التكفير كما هو بالنسبة لشخصية مثل الحلاج.
ان في التصوف (في ذاته) من عناصر الايجاب والقوة ما يجعل له مشايعين من أتباعه، ومتعاطفين من غير أتباعه، كذلك فيه _أو في بعض صوره _ من عناصر السلب والضعف ما يجعل له منكرين ومعارضين من غير أتباعه، وغير مستطيعي الدفاع عن بعض مظاهره _بل منكروها _ من أتباعه. فلقد كان الامام أحمد بن حنبل (ت 241ه) شديد الانكار لما جاء به التصوف وما جاء في أقوال الصوفية من البدع. ويذكر ابن كثير أن سبب كراهية أحمد لصحبة الصوفية أن في كلامهم عن التقشف وشدة السلوك ما لم يرد به شرع، ومن التدقيق ومحاسبة النفس ما لم يأت به أمر.
وفي الجانب المقابل نجد شيخ الطائفة أبا القاسم الجنيد بن محمد (ت 297ه) يثور ثورة عارمة حين يقول أحد جلسائه: ان أهل المعرفة بالله يصلون الى ترك الحركات من باب البر والتقوى، فيرد أبو القاسم الجنيد: ان هذا قول قوم يقولون باسقاط الأعمال وهذه عندي عظيمة، والذي يسرق ويزني أحسن حالا ممن يقول هذا.
هذا موقف واحد من أتباع التصوف بل واحد من كبار مشايخهم ينكر سلوكا يلجأ اليه بعض الصوفية.
وهكذا نجد أن الصوفية أنفسهم يقومون بعملية نقد ذاتي حيث يضعون الحدود والاسس، ومن خلال ذلك يتضح من هو داخل في اطارها ومن هو خارج عليها.
يذكر السراج الطوسي (ت 378ه) أن الغالطين في التصوف ينقسمون الى ثلاث طبقات: فطبقة منهم غلطوا في الاصول، من قلة أحكامهم لأصول الشريعة، وضعف دعائمهم في الصدق والاخلاق، وقلة معرفتهم بذلك، كما قال بعض المشايخ: انما حرموا الوصول لتضييع الاصول. وطبقة ثانية منهم غلطوا في الفروع، وهي الاداب والاخلاق والمقامات والاحوال والافعال والأقوال _فكان ذلك من قلة معرفتهم بالاصول، ومتابعتهم لحظوظ النفس ومزاج الطبع، لانهم لم يدنوا ممن يروضهم ويجرعهم المرارات ويوقفهم على المنهج الذي يؤديهم الى مطلوبهم. فمثلهم في ذلك كمثل من يدخل بيتا مظلما بلا سراج، فالذي يفسده أكثر مما يصلحه وكلما ظن أنه قد ظفر بجوهر نفيس لم يجد معه إلا خزفا خسيسا لانه لم يتبع أهل البصيرة الذين يميزون بين الاشباه والاشكال والاخلاق والاجناس، فعند ذلك يقع لهم الغلط، ويكثر منهم الهفوة والشطط.
والطبقة الثالثة كان غلطهم فيما غلطوا فيه زلة وهفوة لا علة وجفوة. فاذا تبين ذلك عادوا الى مكارم الاخلاق ومعالي الامور. وكل طبقة من هذه الطبقات الثلاث على أحوال شتى من التفاوت والارادات والمقاصد والنيات. فمن غلط في الأصول فلا يسلم من الضلالة، ولا يرجى لدائه دواء إلا أن يشاء الله ذلك. والغلط في الفروع أقل آفة وان كانت بعيدة من الاصابة.
وإذا كان التصوف _من خلال النقد الذاتي _ مطهرا نفسه بنفسه، فان من ثمار ذلك ان قامت نظريات في التصوف لا تشوبها شائبة ابتداع، محافظة على أصالتها ونقائها.
وثمة مسألة هامة ينبغي الاشارة اليها قبل تناول احدى نظريات التصوف الخالص وهي ما مدى ذلك التعارض _الذي يصل الى حد التناقض _ بين التصوف كسلوك عملي وذلك هو الاصل في منشئه وقيامه وشيوع بعض الاتجاهات النظرية فيه. وفي مجال تفسير مثل ذلك التعارض نلاحظ ان التناقض _ان كان ثمة تناقض _ سمة تميز النسق الفلسفي سلوكا وفكرا. ويتضح النسق الأصيل من التناقض في التصوف، الاجتباء والاجتهاد، التوكل والجهاد، قوم آمنوا بالجبر الى حد أن جعلوا أنفسهم كريشة في فلاة تذروها الرياح بين يدي المقادير، ولكنهم مع ذلك أصحاب الجهاد الأكبر: جهاد النفس. وقد ترتب على هذا النسق من التناقض عندهم أن اتخذت الالفاظ والمصطلحات معاني مخالفة لمعناها المألوف، بل أنهم يمجدون ما اصطلح الناس أن ينفروا منه وأن يستهجنوه كالعبودية والفقر وخمول الذكر، وفي عبارات لهم مثل: العبودية شهود الربوبية، من أراد الحرية فليصل الى العبودية وهكذا.
ومن ناحية أخرى نلاحظ أن ذلك التعارض المزعوم ليس له من أساس عندهم، إذ أن العقل وان كانت ثورة الصوفية عليه عارمة الا أنه ظل _عند كثير منهم نبراسا يضيء ويعصم من زلل الاهواء. بناء على ذلك ندرك أن التصوف لم يخل من أساس نظري جعله يندرج في اطار (الفكر) الاسلامي بالرغم من كونه تجربة سلوكية معاشة. ولا نعني بالجانب النظري في التصوف انه من الضروري أن يصير (اتجاها) فلسفيا، بل نعني به الجانب النظري الذي يكمل التجربة السلوكية ولا يتعارض معها. لقد انعكس السلوك عند الصوفية اذن على الفكر، والعمل على النظر، ولابد أن يصبح السلوك العملي (موقفا) محددا ازاء الحياة وإزاء الوجود. لقد اجتمع الصوفية على موقف موحد اذ تبنوا (الروح) كمبدأ يفسر حقيقة الوجود في مجال النظر، كما تبنوا القيم الروحية كمسلك في مجال العمل.