تمثل "الاستنارة": حالة كيفية ونوعية من "الوعي _ الفاعل" بحقيقة "الذات" و "الواقع" و "المحيط".. فلا بد فيها من الوعي "بالذات الحضارية والثقافية" والمعرفة الواعية "بالآخر الحضاري والثقافي" أيضاً..
والذين تقف ثقافتهم عند موروثهم الفكري لا تتعداه، هم _في أحسن الأحوال_ كمن ينظر بعين واحدة، فلا يبصرون إلا ذاتهم، أو كالأعمى الذي لا يدرك من الوجود غير جسده الذي يتحسسه بيديه!
وكذلك حال ثقافة الذين ضربت عقولهم في "المصانع الفكرية" للحضارات الأخرى، الذين جهلوا مواريثهم، وهوية أمتهم، وثقافة الحضارة التي يحملون أسماءها، وإلى شعوبها ينتسبون..
إنهم مستنيرون.. لكن استنارتهم لا ترى غير الآخر، ولهم وعي، لكن وعيهم لا يدرك الذات الحضارية التي يستظلون بعنوانها العقدي والوطني والقومي والثقافي.
ومن هنا، كانت الاستنارة الكاملة الفاعلة هي الوعي الحقيقي "بالذات الحضارية" و "بالآخر الحضاري"، وإدراك وإعمال قوانين الاخذ والعطاء، والتفاعل الصحي بين تيارات الفكر الإنساني، وثمرات العقول في مختلف الثقافات والحضارات..
فالذين يكتفون "بذاتهم" الثقافية والحضارية. لابد وأن يقودوا هذه "الذات" إلى الذبول والاضمحلال، مثلهم في ذلك كمثل المضرب عن الطعام، يعيش على الذات حتى يستهلك مكوناتها!
وكذلك الذين يتجاهلون أو يجهلون "الذات" الثقافية والحضارية لأمتهم، ويتقمصون "ذوات" الآخرين، لابد وأن تنتهي هذه "الذات" _التي فرطوا فيها _ إلى الذبول والاضمحلال!..
فمعرفة النفس لا تغني عن معرفة الآخرين.. والعكس صحيح..
ولا يحسبن أحد أن هذا المنهاج _في الاستنارة الحقيقية _ هو وليد الواقع المعاصر، وما شهد ويشهد من تسارع وتعاظم في ثورة وسائل الاتصال.. فمن القرآن الكريم نتعلم المنهاج الذي يدعونا _بعد الوعي بالذات، واليقين بالحق الذي نؤمن به، وننتمي إليه، ونجاهد في سبيله_ .. يدعونا هذا المنهاج القرآني إلى التعرف على الآخرين.. بل والتأمل فيما يقولونه عنا، والتدبر في "صورة ذاتنا" لدى هؤلاء "الاخرين".
إن عالمية الإسلام تفرض على أمته _كي تحقق القيام بفريضة الدعوة إليه _ تحقيق مستويات ثلاثة في الدعوة إلى هذا الدين:
1_ تبليغ الدعوة الإسلامية إلى الآخرين.
2_ وإقامة الحجة، بصدق الإسلام، على هؤلاء الآخرين.
3_ وإزالة الشبهة، عن الإسلام، لدى هؤلاء الآخرين.
وبدون المعرفة بالآخر، والوعي بما لديه من عقائد و "أيديولوجيات" ومواريث فكرية وثقافية، يستحيل إنجاز هذه الأركان في فريضة الدعوة إلى الإسلام..
وليس كالقرآن كتاباً اعتمد "المقارنة" منهاجاً في إثبات الحق الإسلامي، عندما عرض هذا الحق مقارناً بما لدى الشرك والوثنية والإلحاد والتحريف من دعاوى ومواريث.. (قالَ أتَعبدونَ ما تَنحِتونَ واللهُ خَلَقَكُم وما تَعمَلُون).
وفي تقرير صفات الكمال للذات الإلهية، ينساب المنطق القرآني إلى العقول والقلوب عندما يأتي في معرض المقارنة مع بضاعة الآخرين: (واذكُر في الكتابِ إبراهيمَ إنَّهُ كانَ صدّيقاً نَّبياً إذ قال لأبيه يا أَبَتِ لم تَعبُدُ ما لا يَسمعُ ولا يُبصرُ ولا يُغني عنك شيئاً).
وليس كالقرآن كتاباً سعى إلى استنطاق الآخرين كل ما لديهم من "حجج وبراهين" على ما يعتقدون: (وقالوا لَن يَدخلَ الجنَّة إلاّ من كانَ هُوداً أو نَصارى تلكَ أمانيُّهم قُل هاتُوا بُرهانكم إن كُنتم صادقين).. (سيقولُ الَّذين أشركوا لو شاءَ اللهُ ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حَرَّمنا من شيء كذلك كذَّب الذين من قبلِهم حتى ذاقُوا بأسنا قل هَل عِندكم من عِلمٍ فتخرجُوه لنا إن تَتَّبعونَ إلاّ الظَّنَّ وإن أنتم إلاّ تخرُصُون).. (قُل أرايتُم مّا تَدعونَ من دونِ اللهِ اروني ماذا خَلَقوا من الأرضِ أم لهم شركٌ في السّمواتِ ائتوني بكتابٍ من قَبلِ هذا أو أثارةٍ من علمٍ إن كنتم صادقين).
وليس كالقرآن كتاباً اهتم "ببضاعة" الآخرين _العقدية والفكرية _ على ما بها من سقم وعوج وتهافت.. فهو يثبت ما تحدثوا به عنه _وهو المعجز المتحدى_ عندما قالوا: (... إن هذا إلا أساطيرُ الأوّلين).. (بَل قالوا أضغاثُ أحلامٍ بل افتراهُ بل هُوَ شاعرٌ فليأتنا بآيةٍ كما أُرسلَ الأوّلون)..
ويثبت ما وصفوا به الصادق الأمين (ص) عندما قالوا عنه: (هذا ساحرٌ كذّابٌ).
ويثبت الفلسفة الدهرية _على بؤسها _ عندما تعلقوا بحبالها: (وقالوا ما هِي إلاّ حَيَاتنا الدُّنيا نموتُ ونحيا وما يُهلكُنا إلاّ الدّهر وما لَهُم بذلك من علمٍ إن هُم إلاّ يظُنون).
ويخلّد "منطقهم" العجيب، الذي انحاز للشرك، متعجباً من التوحيد!: (أجَعَلَ الآلهةَ إلهاً واحداً إنَّ هذا لشيءٌ عُجَابٌ).
يتتبع القرآن الكريم "مقالات" الآخرين، فيفندها، ثم لا يطوى صفحتها متجاوزاً إياها، وإنما يثبتها آيات في سورة نتلوها ونتعبد بها، ليرسي دعائم هذا المنهاج في مقارنة العقائد والفلسفات والأفكار.
بل إننا نتعلم من هذا المنهاج القرآني، أن الذين يصادرون الفكر الاخر، ويغلقون دونه الأسماع والأبصار إنما كانوا هم المشركين.. فتجاهل الفكر الآخر، والصد عن سماعه وتأمله وتدبره ليس منهاج أهل الإيمان.. والمشركون هم الذين يُلهون ويصرفون أنفسهم وذويهم عن القرآن: (وَمِنَ النّاسِ من يشتري لَهوَ الحديثِ ليُضلَّ عن سبيلِ اللهِ بغيرِ علمٍ ويتَّخذها هُزُواً أُولئكَ لهم عذابٌ مُّهين).. فلقد رفعوا شعار التعمية على هذا الذي خالف ما وجدوا عليه آباءهم وكبراءهم: (وقالَ الَّذينَ كَفَروا لا تَسمَعُوا لهذا القرآنِ والغوا فيهِ لَعلَّكم تغلبُونَ).. فلقد حسبوا أن الراحة والغَلَب في التعمية على هذا الذي لم يألفوه، والكتمان لهذا الذي لا يهوون، والمصادرة لهذا الذي لا يريدون!..
هذا هو المنهاج القرآني في التعامل مع الفكر الآخر _حتى عندما كان شركاً صريحاً وكفراً بواحاً ووثنية جاهلية ودهرية حيوانية، مصادمة للفطرة السوية التي فطر الله عليها الإنسان في الإيمان..
***
واليوم.. ونحن نعيش واقعاً عالمياً، إن هدأت فيه أدوات القتال الدامي حيناً، اشتدت فيه آليات التدافع الفكري، بل والغزو الثقافي، والاجتياح الإعلامي، في كل الأحايين.. في هذا الواقع، نرى فكر الآخرين يقتحم على عقولنا وقلوبنا حتى مخادعنا التي نستكن فيها!.. وكذلك يتاح لفكرنا _هو الآخر _ أن يصل إلى الآخرين في عوالمهم، الأمر الذي أحدث تغييراً نوعياً في المواقع الفكرية على خارطة الواقع المعاصر.. فلم يعد الفكر الآخر خارج الحدود، ولا حتى متربصاً ومتلصصاً على النوافذ والأبواب، وإنما غدا في داخل حصوننا، قامت وتقام له المراكز والمؤسسات والجامعات والصحف والمجلات.. بل إنه يمطرنا صباح مساء وآناء الليل وأطراف النهار من أقماره الصناعية السابحة في سماواتنا بلا حواجز أو حدود!..
كما أصبحت لنا _نحن أيضاً _ رغم حالة الاستضعاف وقلة الإمكانات _مراكز إشعاع فكري في ديار الآخرين، تؤتي _بقوة الحق الإسلامي، وجاذبية الفطرة فيه _ من الثمرات ما يعوض سلبيات الاستضعاف وقلة الإمكانات!..
لقد اثمر هذا الواقع الجديد _الذي أحدثته ثورة وسائل الاتصال _ لوناً من "التلاحم الفكري" العالمي، الأمر الذي فرض ويفرض على مختلف فرقاء التدافع الفكري الوعي بما لدى الآخرين.. فلقد أصبح هذا الوعي ضرورة للقبول وللرفض على حد سواء!..
وإذا كانت القضية، بالنسبة لنا، تتعدى حدود "المغالبة الدنيوية" في عالم الأفكار، إلى حيث هي فريضة دينية _أيضاً _ لإبلاغ الدعوة إلى الإسلام، وإقامة الحجة على صدقه، وإزالة الشبهة عن عقول المشتبهين فيه.. فإن الوعي بما لدى الآخرين عن "ذاتهم" وعنا يصبح _هو الآخر _ فريضة إسلامية على الذين انتدبوا أنفسهم للرباط الفكري على ثغور الإسلام _ الدين.. والحضارة.. والأمة.. والديار _هذه الشريحة من أهل العلم، الذين تحدث عن رسالتهم هذه رسول الله (ص) عندما قال: "يحمل هذا العلم من كل خَلَف عدوله، ينفون عنه تحريف الضالين وانتحال المبطلين".