لم يعد الموار والحراك الحاصل داخل الجسد الإسلامي حكراً على المسلمين وحدهم، فيما يخص تقرير طبيعة كيانهم السياسي والاجتماعي وتحديد قيمهم ومبادئهم وتصوراتهم، وبناء رؤيتهم الخاصة للعالم والآخر، فقد أضحى (الآخر) عنصراً فاعلاً ـ إن لم نقل أساسياً ـ في صياغة تلك المبادئ والمفاهيم والتصورات، شئنا ذلك أم أبينا، حيث لم يعد العالم الإسلامي في موقع القوة العظمى المهيمنة كما كان في السابق، بل إن حريته واستقلاله السياسيين، أضحى في كثير من جوانبه منتهكاً بل مستباحاً؟!.
بيد أن ذلك التدخل في شؤون المجتمعات الإسلامية وأسلوب صياغتها لرؤاها ومبادئها وتصوراتها الخاصة، وحتى قراراتها السياسية، ازداد في الآونة الأخيرة وخاصة بعد انهيار المنظومة الشيوعية، وبروز الإسلام بوصفه خصماً جديداً للعالم الغربي أو على الأقل هكذا يفترض له أن يكون؟. وجاءت أحداث الحادي عشر من أيلول لتسلط الأضواء وتركز من الجهود على ما يسميه الغرب بـ"حالة الصراع الداخلي التي يحاول من خلالها العالم الإسلامي أن يقرر طبيعته وقيمه الخاصة، مع ما يترتب على ذلك من مضامين مستقبلية".
إن طرح السؤال التالي والمتلخص بـ"ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه باقي دول العالم ـ عدا العالم الإسلامي ـ المهددة والمتأثرة بالصراع الحاصل داخل العالم الإسلامي للحصول على محصلة سلمية وإيجابية لهذا الصراع؟"، إن طرح هذا التساؤل، وإن بدا للوهلة الأولى محاولة للتدخل السياسي في صياغة القرار السياسي والقضاء على ما تبقى من استقلال وحرية للمجتمعات الإسلامية، إلا أن انعكاساته المباشرة على شكل "الدين" وماهيته التي يرغب العالم الغربي في الحصول عليها، يضعنا مباشرة مع عدد من المحاولات الجارية حالياً لتحديث الإسلام بوصفه ديناً، والعالم الإسلامي والانتقال بهما إلى "واحة الديمقراطية والمدنية".
ففي تقرير أعدته (شاريل بينارد) ونشرته مؤسسة (راند) بتمويل من مؤسسة (سميث ريتشاردسون)، وترجمه أحد المواقع الإسلامية، تقترح الباحثة ابتداءاً ابتكار منهج سليم للتعامل مع حالة الصراع الفكري الداخلي الدائرة داخل الإسلام ذاته، استناداً إلى قدر كبير من الفهم العميق للتعرف إلى الشركاء الملائمين للولايات المتحدة والغرب عموماً، ووضع أهداف ووسائل كفيلة بتشجيع هؤلاء الشركاء على النمو بطريقة إيجابية، في سياق محاولة جريئة من الكاتبة لتوجه النصح للإدارة الأمريكية ووزارة الخارجية بالذات، للتعامل مع العالم الإسلامي وتوجيهها في اختيار العناصر المفيدة لها في بناء "الإسلام الديمقراطي المدني"، كما هو عنوان التقرير.
تحدد الباحثة بداية ثلاثة أهداف رئيسية للولايات المتحدة فيما يخص صيغة علاقتها بالإسلام السياسي: أولاً: أن تسعى الولايات المتحدة إلى منع انتشار التشدد والتطرف. ثانياً: ولتحقيق ذلك عليها أن تتجنب تعميق الانطباع السائد في العالم الإسلامي بأنها "معادية للإسلام". وأخيراً: على الولايات المتحدة أن تسعى، وعلى المدى الطويل، للتصدي للأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العميقة التي تغذي الأصولية الإسلامية، وتشجيع التوجه نحو التنمية والديمقراطية.
وفي ظل هيمنة نظرية "السلة الواحدة" والتي تعاملت على أساسها الأنظمة العربية بإيعاز من الولايات المتحدة مع الحركات والمنظمات الإسلامية منذ مطلع السبعينات وحتى وقتنا الراهن، فإن الباحثة، وعلى العكس من تلك النظرية، تؤكد على أهمية تصنيف التيارات المتناحرة في العالم الإسلامي وتجاوز النظرية السابقة، واعتماد آراء وتوجهات كل تيار حول عدد من الموضوعات (كالديمقراطية وحقوق الإنسان، وقضايا المرأة، والحجاب وغيرها)، كأسلوب لتصنيف هذه التيارات وسبر فكرها وتوجهاتها، "وحينئذ يكون من السهل علينا أن نتعرف على الأطراف التي تتماشى مع قيمنا، والأطراف التي يمكن أن نعتبرها متشددة وعدائية".
بالطبع، فإن العذر المسوق والدافع المعلن من وراء القيام بذلك هو الخوف من نتائج حالة الاقتتال الدائرة في العالم الإسلامي وما يترتب عليها من عدم الاستقرار والإرهاب، والرغبة في الحصول على مجتمع إسلامي متحضر وديمقراطي ومنسجم مع القيم الغربية المعولمة حالياً، وعليه، فإنه يبدو من الحكمة "تشجيع عناصر من داخل المزيج الإسلامي تكون أكثر ملاءمة مع السلام العالمي والمجتمع الدولي، وصديقة للديمقراطية والحداثة"، وإذ تحدد الباحثة مكمن الأزمة الحالية للإسلام في "عدم قدرته على النمو، وعدم الاتصال مع الاتجاه السائد في العالم"، فإنها تعود باللائمة أيضاً على فشل المشاريع القومية والعروبية والاشتراكية في تحقيق وعودها للمجتمعات العربية والإسلامية، وحالة الإحباط والغضب التي انتابت تلك المجتمعات جراء ذلك.
وتصنف الباحثة التيارات القائمة في المجتمعات الإسلامية إلى أربع فئات:
الأولى: فئة المتشددين الرافضين لقيم الديمقراطية والحضارة الغربية المعاصرة، على حد تعبير المؤلفة، ويريدون إقامة "دولة فاشستية متزمتة تطبق وجهة نظرهم المتطرفة"، مستخدمين في سبيل ذلك الابتكارات والتكنولوجيا الحديثة لتحقيق ذلك.
والفئة الثانية: هم التقليديون والذين يريدون مجتمعاً محافظاً، ويشككون في الحداثة والتغيير والابتكار.
والفئة الثالثة: هم الحداثيون الذين تصفهم بأنهم يريدون أن "يكون العالم الإسلامي جزءاً من التقدم السائد في العالم، والقيام بتحديث الإسلام وإدخال الإصلاحات فيه حتى يكون مواكباً للعصر". فيما الفئة الرابعة، وهم العلمانيون الذين يتقبلون فكرة فصل الدين عن الدولة، كما هو الحال في الغرب، مع حصر الدين في النطاق الشخصي.
وفيما ينصح البحث صناع القرار في الغرب بعدم التعامل مع المتشددين بسبب عدائهم المعلن للغرب وقيمه وعدم تشجيعهم كخيار إلا لاعتبارات تكتيكية مرحلية، في إشارة إلى محاولة الغرب استغلالهم في بعض مناطق النفوذ في العالم (أفغانستان)، فإنه يرى عدم نجاعة التعاون مع التقليديين لقربهم فكرياً وشعورياً من المتشددين، وعدم إخلاصهم لمبادئ الديمقراطية والحداثة الغربية، وبالتالي عدم القدرة على التوصل إلى سلام مستقر معهم. فيما ترى في الحداثيين والعلمانيين أقرب الفئات إلى الغرب، ولكنها تتحسس ضعفهم في مواجهة بقية التيارات، وخاصة تيار الحداثيين الذين يفتقدون إلى المال والبنية التحتية والبرنامج السياسي، لكن الباحثة ترى فيهم الشريك المفضّل، فيما يعاب على العلمانيين ضعف القبول الاجتماعي؛ نظراً لابتسارهم ونخبويتهم ويسارية معظم نخبهم، ووجود بعض المشاكل لديهم في التعامل مع القطاع التقليدي في المجتمع المسلم.
أما برنامج العمل الذي تقترحه الباحثة والذي يعد خلاصة تجربتها واختبارها للتيارات المختلفة، فإنه يتمثل في دعم الحداثيين أولاً بوصفهم الشريك المحتمل للغرب الأكثر نجاحاً وقبولاً في المجتمعات الإسلامية على المدى الاستراتيجي، ويتمثل في تشجيع الحداثيين على الكتابة ونشر وطباعة الكتابات، وطرح وجهات نظرهم في المناهج الدراسية الإسلامية، وتزويدهم ببرنامج سياسي وجعلهم في موقع أكثر قدرة على المنافسة مع التقليديين الذين يمتلكون العديد من المنابر الإعلامية، وجعل الحداثة والعلمانية بمثابة خيار ثقافي بديل للشباب المسلم، بالإضافة إلى مساعدتهم على بناء منظمات مستقلة للمجتمع المدني وإتاحة الفرصة لهم للتعبير عن أنفسهم وآرائهم.
وتشمل الخطة أيضاً دعم التقليديين ضد المتشددين من خلال نشر انتقادات التقليديين ضد لعنف المتشددين وتطرفهم وتشجيع عدم الاتفاق بينهم، وتشجيع التعاون بين الحداثيين والتقليديين، ودعم التقليديين وتحسين أدائهم ضد المتشددين، والعمل على زيادة تواجد الحداثيين في مؤسسات التقليديين، وتشجيع الإسلام الصوفي وزيادة شعبيته في المجتمع. فيما تقترح المؤلفة مواجهة المتشددين من خلال تحدي تفسيرهم للإسلام والكشف عن أخطائهم وفضح ارتباطهم بمجموعات غير قانونية، وتجنب إبداء أي تقدير أو إعجاب بأعمال العنف التي يقومون بها، ووصفهم بأنهم جبناء ومضطربين، وتشجيع الانقسامات بينهم، وإثبات عدم قدرتهم على الحكم وعدم امتلاكهم لبرنامج سياسي واقتصادي واضح، فيما تطالب بدعم انتقائي للعلمانيين لمنع إقامة تحالف بينهم وبين القوى المعادية للولايات المتحدة مثل القوميين واليساريين، وتشجيع مقولة قابلية الإسلام للانفصال عن المجتمع، وأن ذلك لا يشكل خطراً على الدين بقدر ما يؤدي إلى تقويته.
لقد بدا مؤخراً أن التدخل الغربي والأمريكي في العالم الإسلامي لم يعد تدخلاً تكتيكياً أو ظرفياً بقدر ما أضحى تدخلاً دائماً واستراتيجياً يهدف إلى إعادة تكوين العالم الإسلامي بما يتناسب مع رؤى وطموحات الغرب وأمريكا على وجه الخصوص، وفي الوقت الذي تعلن فيه تلك الدوائر الغربية رغبتها بالتحالف مع تيار جديد بدا للتو نشاطه في الجسم الإسلامي (ما أسمته الباحثة بالحداثيين)، مستغلة رغبته الصادقة بالنهوض بالعالم الإسلامي، فإن تلك الرغبة الغربية الحثيثة يجب ألا تعمينا عن صدق نية ومأرب فئة أو قسم من هذا التيار أخذ على عاتقه مهمة النهوض بالجسم الإسلامي الواهن، وفي الوقت ذاته، يجب أن لا تخدعنا تلك الدعاوى الغربية وألا ننجرف وراءها لتحقيق الإصلاح والنهوض المطلوبين، فما يريده الغرب منا كلمة حق يراد بها باطل، ولكن ذلك يجب ألا يحجبنا عن إرادة التغيير والنهوض المطلوبة جوهرياً، وإن ترددت على ألسنة الآخر المتآمر حالياً، شريطة أن يكون بأيدينا نحن لا بيد عمرو أو غيره