هذا أول المراتب وأولاها أن يعمل به إذا ظهر اختلاف بين القول والفعل، لأن الجمع بين الدليلين أولى من إلغاء أحدهما. وسواء عُلم تأخر الفعل، أو تقدمه، أو جهل.
فإن كان القول أمراً بفعل فتركه، بحمل الأمر على الاستحباب لا على الوجوب، كما أمر بأن يوتر المتهجد بواحدة، وأوتر هو (ص) بسبع أو تسع.
وإن كان نهياً عن فعل ففعله أمكن أن يحمل النهي على الكراهة، كما نهى عن الشرب قائماً وشرب قائماً، ونهى عن استدبار القبلة بالبول أو الغائط واستقبالها، ثم استدبرها. ذكر هذه الطريقة ابن حزم الزركشي في البحر وترد في كلام الفقهاء كثيراً.
وربما أورد على هذه الطريقة، أن حمل الأمر على الندب، وحمل النهي على الكراهة، هو إخراج لهما عن الحقيقة التي يه الأصل، إلى المجاز وهو خلاف الأصل. أما القول بخصوصيته (ص) بحكم الفعل فإنه يبقى الأمر والنهي معه على حقيقتهما، فيكون أولى.
وقد أجاب الحافظ العلائي عن هذا الاعتراض بن الذي اختص به النبي (ص) عن الأمة شيء نزر يسير جداً، بالنسبة إلى باقي الأحكام، فالتزام المجاز أولى من التزام الخصوصية.
ـ تخصيص العموم بفعله (ص):
إذا ورد فعله (ص) مخالفاً في الحكم لمقتضى قول عام، كما نهى عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة، وثبت أنه فعل ذلك، فإن إمكان خروجه هو (ص) من حكم العام لا إشكال فيه. وأما بالنسبة إلى الأمة، فهل يصح أن يكون ذلك تخصيصاً في حقهم؟ كأن يقال في المثال المتقدم بجواز الاستقبال والاستدبار في البنيان دون الصحراء، استدلالاً بالفعل.
هذه المسألة تنبني على حجية الفعل في حق الأمة:
فمن قال إن الفعل لا يدل في حق الأمة على شيء، منع التخصيص به في مخالفة العموم. وقد نقل نفي جواز التخصيص بالفعل عن الكرخي وبعض الشافعية. واشترط الكرخي للجواز تكرر الفعل، لأنه إذا فعله مرة واحدة احتمل أن يكون من خصائصه (ص).
واشترط الغزالي أن يَدُلّ بالقول على أن الفعل بيان.
ومَن توقف في ذلك، توقف في التخصيص به.
وأما الذين قالوا في غير حال مخالفة العموم إن الفعل دليل في حق الأمة، وهو القول المختار، فلم يتفقوا على جواز التخصيص بالفعل في مخالفة العموم، بل ساروا في اتجاهين:
الاتجاه الأول: امتناع التخصيص بالفعل، ذهب إلى ذلك الآمدي، واختار الوقف، ووجه ذلك عنده أن عموم الأمر باتباع الأفعال والتأسي بها، عارضه عموم القول المتقدم، وليس إبطال أحد العمومين عنده أولى من إبطال الآخر.
ونُقل مثل هذا القول عن القاضي عبدالجبار. وقال به أبو الحسين البصري في باب (الأفعال) من كتابه، وأجاز التخصيص بالفعل في باب (العموم) منه.
وابن الحاجب يرى أنه إن كان ثمة دليل خاص يوجب التأسي بالفعل يكون نسخاً للقول إذا علم تأخره. وإن لم يكن دليل خاص، بل الدليل العام لوجوب الاتباع، فإن الدليل العام لوجوب الاتباع يكون مخصصاً بالقول المتقدم، فيبقى عليهم حكم القول المتقدم، ويمتنع اقتداؤهم به في الفعل.
الاتجاه الثاني: وعليه عمل جمهور الفقهاء وتصرفاتهم في الفروع، فإنها تدل على أنهم يجيزون التخصيص بالأفعال. ونسب الآمدي القول بذلك إلى الشافعية والحنفية والحنابلة. وإليه ذهب أبو إسحاق الشيرازي، والقاضي أبو يعلى، والسمعاني وغيرهم، واختاره الحافظ العلائي. فالفعل يكون عندهم مخصصاً للقول العام في حق الأمة أيضاً. وسواء تقدم الفعل أو تأخر، أو جهل التاريخ، على القول الراجح في تقديم الخاص على العام.
قال العلائي: (والحجة لذلك أن القول بتخصيص فعله به (ص)، موجب إبطال الدليل الدال على التأسي به في ذلك الفعل، والقول بتخصيص القول بإحدى حالاته وتعميم حكم الفعل في حقه وحق الأمة إعمال للدليلين، وإعمال الدليلين أولى من إبطال أحدهما).
قال: (ويتأيد هذا بأن الأصل مشاركة الأمة له في الأحكام، إلا ما دلّ دليل على تخصيصه به (ص) ).
وأما ابن حزم فيرى أنه يجوز تخصيص عموم القول بالفعل إن تأخر الفعل، لا إن تقدم الفعل، أو جهل الحال فإن تقدم الفعل وجب اعتقاد الفعل منسوخاً. وإن جهل الحال فالأشبه أن يكون الفعل متقدماً في الزمان ويكون منسوخاً.
والصحيح ما اختاره الحافظ العلائي، لأن منصب النبي (ص) منصب البيان والتشريع، وأفعاله (ص) في ذلك هي موضع القدوة والأسوة، فيقتدى بها حيث أمكن.
وإنما يمكن حملها على التخصيص إذا ظهر أنه (ص)، إنما خالف قوله لسبب معين، أو أمكن تعقل معنى مناسب، يكون مناطاً لحكم الفعل. فإن لم يمكن ذلك وجب المصير إلى النسخ.
ومن أمثلة التخصيص ما ورد من حثّه (ص) على صيام يوم عرفة، وترغيبه فيه، ثم أفطر بعرفة لما كان واقفاً بها. وقد أفطر وهو على بعيره ليراه الناس فكان هذا الفعل مخصصاً لحثه وترغيبه في الصيام، بالنسبة إلى ذلك المكان لمعنى يخصه لا يوجد في غيره، وهو التقوّي بالفطر على الاستكثار من الدعاء، وذكر الله تعالى في ذلك الموقف الشريف.
فإن لم يمكن الجمع والتخصيص تعارض القول والفعل، ووجب المصير إلى إبطال أحد الدليلين، أو التوقف.