النظام القضائي
كانت امرأة من بني مخزوم تستعير من الناس أمتعتهم ثم تنكرها، فحكم رسول الله ( بقطع يدها تنفيذًا لحد الله، فأراد أهلها أن يستغلوا حُبَّ رسول الله لأسامة بن زيد، فطلبوا من أسامة بن زيد أن يشفع لها عند رسول الله (؛ لينقذها من إقامة الحد عليها، لكن الرسول ( غضب غضبًا شديدًا، وقال: (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطعت يدها) [الجماعة].
وهكذا ضرب الرسول ( مثلاً في تحقيق العدل في المجتمع، فنبذ المحاباة والوساطة ووضع الاعتبار لبعض الناس دون بعض، وقد بلغ من حرص الإسلام على إقامة العدل أن حذر من الظلم وجعله ظلمات يوم القيامة، قال (: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) [مسلم].
الفرق بين الحكم والقضاء:
الحكم هو ما يقوم به الحاكم لتحقيق العدالة في الناس ويشمل كل نواحي حياة الأمة، أما القضاء فهو الفصل في الخصومات بين الناس بما يأمر به الشرع إلزامًا. ومعنى هذا أن القضاء يتم بعد وجود منازعات، أو ضبط أحد الخارجين على القانون متلبسًا بجريمة، وتقديمه إلى القاضي، ليفصل في الأمر بما تقتضيه الشريعة الإسلامية، وتكون أحكام القاضي واجبة التنفيذ.
الفتوى والقضاء:
الفتوى أعم وأشمل من القضاء، لأن الفتوى لا تحتاج إلى إجراءات معينة، ويكفي أن يرسل السائل إلى العالم، فيجيب عن سؤاله، والقاضي لا يسأل ولا يستفتي في مسائل العبادات، أما المفتي فيجيب عن كافة التساؤلات، وينصح ويرشد، لكنه لا يملك معاقبة المقصرين في أدائها مثل القاضي.
القضاء والنظم القضائية:
تتمتع الدولة المسلمة بمجموعة من المؤسسات، والقضاء جزء هام من هذه المؤسسات، لتحقيق العدالة وإخضاع الجميع لشرائع الإسلام وآدابه، وجاء الإسلام بنظم قضائية فريدة لم يعرفها العالم من قبل من أهمها: القضاء، والشرطة، ونظام الحسبة، ونظام النظر في المظالم.
تاريخ القضاء في الإسلام:
لقد كان الرسول ( حاكم الدولة وقاضيها الأول، وقد أمره الله تعالى بذلك قائلاً: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك} [المائدة: 49]. وقال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا}
[النساء: 105].
وكان ( يرسل نوابًا عنه إلى الأماكن البعيدة يتولون القضاء، فقد أرسل معاذ بن جبل -رضي الله عنه- إلى اليمن، وَعتَّاب بن أسيد -رضي الله عنه- إلى مكة، وكان قبل أن يرسل القضاة يتولاهم بالنصيحة والموعظة، وقد أوصى النبي ( علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ذات مرة، فقال: (يا علي، إذا جلس إليك الخصمان، فلا تَقْضِ بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء) [أحمد وأبوداود والترمذي].
المبادئ العامة للقضاء في الإسلام
كانت المبادئ العامة للقضاء في عهد الرسول (، ومن تبعه من الخلفاء والأمراء غاية في السمو والارتقاء والعظمة، ومن مظاهر ذلك:
- القاضي يحكم وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية.
- التحذير من الظلم في القضاء، فقد قال (: (إن الله مع القاضي ما لم يَجُرْ (يظلم)، فإذا جار تبرأ منه، وألزمه الشيطان) [الحاكم والبيهقي]. وقال (: (من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جَوْره (ظلمه)، فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار) [أبو داود].
- ابتعاد القاضي عن كل ما قد يؤثر على حكمه بالعدل، فيراعى أن يكون في أحسن حالاته النفسية، بعيدًا عن الجوع والعطش، والضيق والقلق والغضب، حتى لا يؤثر ذلك في عدالته، قال (: (لا يحكم أحدكم بين اثنين وهو غضبان) [متفق عليه].
- تحريم تقديم الرشوة للقاضي، أو قبولها، وإذا قدمها المتهم، فللقاضي أن يعاقبه بما يراه، ولذلك فقد كان قضاة الإسلام لا يستضيفون الخصوم أو بعضهم، ولا يقبلون ضيافتهم ولا هداياهم، حتى لا يكون لذلك تأثير على قضاء القاضي، قال (: (من استعملناه على عمل، فرزقناه رزقًا، فما أخذ بعد ذلك فهو غُلُول) [أبو داود].
وقال (: (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش (أي الذي يعطي الرشوة، والذي يأخذها والوسيط بينهما)) [أبوداود والترمذي وابن ماجه وأحمد].
- تحذير المتخاصمين من الكذب في الادعاء، فعن أنسٍ -رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله ( عن الكبائر، فقال: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور) [البخاري].
- تحرِّي الصدق في عرض القضية، فقد قال ( لرجلين اختصما أمامه في ميراث طال عليه الزمن، وليس لأحد منهما بيِّنة، فقال (: (إنكم تختصمون إليَّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض (أبلغ)، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطامًا (الحديدة التي تحرك بها النار) في عنقه يوم القيامة). فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لأخي. فقال رسول الله (: (أما إذ قلتما، فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق (اقصدا)، ثم استهما (أي ليأخذ كل منكما ما تخرجه القرعة بعد القسمة)، ثم ليحلل كل واحدٍ منكما صاحبه) [أحمد والبخاري ومسلم].
أي أن الناس يتحاكمون إلى القاضي، فيجتهد لهم، وقد لا يصيب الحق، فيقضي لأحدهم بشيء ليس من حقه، فحكم القاضي هنا لا يحل لهذا الشخص أخذ ما ليس من حقه.
- تقديم الصلح على القضاء، وهذا من عظمة القضاء في الإسلام، لأن حكم القضاء يورث الضغائن والأحقاد وما دام الصلح بين المسلمين جائزًا فكان لابد أن يأخذ مكانه لإصلاح ما أفسده الشيطان بين الناس، قال (: (والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرَّم حلالا أو أحلَّ حرامًا) [أصحاب السنن].
ورُوى عن عمر بن الخطاب أنه قال: ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء (أحكام القضاء) يورث بينهم الضغائن.
ومن عظمة الإسلام أنه أباح للقاضي أن يشفع عند أحد المتخاصمين للآخر، فقد ورد أن كعب بن مالك طلب دينًا له كان عند أبي حدرَدٍ، وكانا في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله ( وهو في بيته، فنادى الرسول ( كعب بن مالك، فقال كعب: لبيك يا رسول الله. فأشار إليه بيده أن ضع الشطر من دينك (أي اترك نصف دينك لأخيك). قال كعب: قد فعلت يا رسول الله فقال النبي ( لأبي حدرد: (قم فاقضه) [متفق عليه].
طرق إثبات الحق في القضاء الإسلامي:
- شهادة الشهود، فيشهد على الحق شاهدان ممن ترضى شهادتهما، أو شهادة رجل وامرأتين، قال الله عز وجل: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} [البقرة:282]. وهذا في غير القضايا التي تتعلق بالعِرض والشرف، التي يلزم فيها أربعة شهود.
- الوثائق المكتوبة والأدلة الأخرى التي يستخدمها القاضي بذكاء للتوصل للحكم الصحيح.
ضوابط اختيار القضاة:
لا يتولى القضاء في الدولة الإسلامية إلا من توفرت فيه عدة شروط، منها:
- الإسلام والعقل والبلوغ، فلا يتولى قضاء المسلمين كافر أو مجنون أو فاسق أو طفل صغير، كما اشترطوا العلم بالكتاب والسنة، والذكاء الذي يساعده على التمييز بين الحق والباطل.
- العِلْم بآيات الأحكام وأحاديثها وأدلتها، وبأقوال الصحابة، وبالإجماع، وبما اختلف العلماء فيه، وأن يكون عالـمًا باللغة العربية، وقادرًا على القياس والاستنباط.
- سلامة الحواس، مثل: السمع والبصر واللسان حتى يستطيع القاضي أن يلاحظ وأن يعبر بها، ولا غنى للقاضي عنها.
- العدالة: وهي أن يكون القاضي متحليًا بمكارم الأخلاق، بعيدًا عن ارتكاب الكبائر، غير مصرّ على فعل الصغائر، فهذه من أفعال الفُساق ولا يتولى القضاء فاسقٌ.
- أن يكون القاضي رجلاً، فلا يجوز أن يتولى القضاء امرأة؛ لأنها مهنة تحتاج إلى الصبر والمعاناة وعدم الانفعال، وطبيعة المرأة بعواطفها الرقيقة، وانفعالها السريع وما يحدث لها من حيض ونفاس وحمل ووضع وإرضاع، كل ذلك يجعلها غير مؤهلة للقضاء، كما أن طبيعة هذا المنصب تتطلب الاحتكاك بجمهور الناس، والشهود والخصوم، والوكلاء وأعوان القضاة وكل ذلك يتطلب المعاناة والانفراد بالأعوان، وهذا لا يليق بالمرأة.
وعندما بلغ رسول الله ( أن أهل فارس جعلوا حاكمهم ابنة كسرى قال: (لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة) [البخاري].
سرعة الحكم في القضايا:
لا يجوز للقاضي تأجيل الحكم في قضية إلا في حالات ثلاث:
- للصلح بين المتخاصمين.
- إذا طلب المدعى مهلة ليأتي بمزيد من الأدلة المؤيدة لحقه.
- إذا كان لدى القاضي شك، يتطلب مزيدًا من البحث والتحرى والدقة.
الأجهزة المعاونة للقاضى:
الشرطة: وهي من الوظائف الإسلامية القديمة، وكانت تساعد القاضي في تنفيذ الحكم الذي يصدره ضد المذنبين. ويبدأ تاريخ الشرطة بعهد عمر بن الخطاب الذي كان يتفقد أحوال الناس بنفسه في الليل ويطارد المنحرفين .
جهاز الحسبة: وهم جماعة تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتكليف من الحاكم المسلم، فالمحتسب يمنع الغش في الأسواق ويراقب الموازين، ويطوف على الخبازين والصناع ليلاحظ جودة المنتجات، ويراقب الأفراح والمآتم ليمنع ما يحدث فيها من منكرات، ويحارب الربا، ويطالب بسداد الديون، ويأمر الناس بالصلوات الخمس في أوقاتها...إلخ. وإجمالاً فقد كانت وظيفة المحتسب من الوظائف المهمة التي تتغلغل في المجتمع، وتنظم التعاملات بين الناس وتحفظ حقوقهم، بما يرضي الله ورسوله.
جهاز المظالم: وهذا الجهاز من مفاخر القضاء الإسلامي، فقد وضع هذا الجهاز لكل ما يعجز عنه القضاة من قضايا، كأن تكون القضية متصلة بكبار القوم أصحاب السلطة والنفوذ، فلا يستطيع القاضي فرض نفوذه والحكم ضدهم، فيكلف والي المظالم بأخذ الحق منهم لصاحبه، ولذلك فوالي المظالم لابد أن يكون على درجة عظيمة من الهيبة والتقوى، وسعة العلم.
وقد تطور ديوان المظالم بعد إنشائه، فأحيانًا كان الخلفاء أنفسهم يقومون بمهمة والي المظالم، وهذا مشهور عن الخلفاء الراشدين والخلفاء الأمويين والعباسيين، ومما يروى في ذلك أن الخليفة العباسي المأمون جلس للمظالم يومًا، فكان آخر من تقدم إليه امرأة، فدخلت عليه وقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال لها: وعليك السلام يا أمة الله، تكلمي في حاجتك. فأخبرته أن ابنه قد اغتصب منها أرضها، فحدد لها موعدًا تأتي فيه، ويحضر خصمها أمامها.
فلما كان اليوم المحدد، أحْضرَ الخَصْمَ، فأجلسها وجلس الخصوم، وظلت المرأة تتحدث بصوت عالٍ، فقال لها الفضل (وزير المأمون): على رِسْلِكِ (أي مهلاً)، إنه ابن أمير المؤمنين. فقال له المأمون: دعها فإن الحق أنطقها، والباطل أخرسه. ثم قضى لها بردِّ ضَيْعَتِها، وحبس ابنه. وهكذا كان لجهاز المظالم أثر كبير في رفع الظلم وانتشار العدل، وتطبيق الشريعة على الجميع، مهما كانت منزلتهم.
التشريع والقضاء بـين الحاضر والمستقبل:
اجتهد علماء المسلمين على مر العصور في استخراج الأحكام والتشريعات من خلال القرآن والسنة، لكن المسلمين في العصر الحاضر نتيجة لتأخرهم بدءوا يستوردون القوانين الغربية التي ثبت فشلها، فعمَّ الفساد وانتشر الظلم، ونتيجة لهذه القوانين أصبحت مطالبة الناس بحقوقهم ورفع المظالم إلى القضاء أمرًا صعبًا، لأن إجراءات المحاكم والقضاء بطيئة ومعقدة، فليس هناك سرعة للفصل في المنازعات، كما هو شأن القضاء الإسلامي كما عرفنا.
كما أن للمحامين الذين لا يراعون ضمائرهم، ولا يراقبون الله خبرة طويلة في التحايل على القانون وقلب الحقائق باستغلال الثغرات الموجودة في القوانين، إلى جانب أن كثرة تأجيل القضايا يكلف الناس أموالاَ كثيرة، ولا ينال صاحب الحق حقه سريعًا، كما لا ينال المخطئ عقوبته سريعًا. مما يؤدي إلى موت العدالة موتاً بطيئًا وضياعها من حياة المسلمين.